غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
مطلب : في مجانبة الهماز والبذي .

وأن المرء على دين خليله وإياك والهماز إن قمت عنه والبذي فإن المرء بالمرء يقتدي ( وإياك والهماز ) أي احذره وابعد عنه ولا تصاحبه فإنه يهمزك ( إن قمت عنه ) أي من عنده ، فمتى غبت عنه همزك . قال في القاموس : الهمز الغمز والضغط والنخس والدفع والضرب والعض والكسر ، انتهى .

وفي النهاية : والهمز أيضا الغيبة والوقيعة في الناس وذكر عيوبهم ، وهذا مراد الناظم هنا . وقد همز يهمز فهو هماز وهمزة للمبالغة ( و ) إياك و ( البذي ) أي الفاحش في مقالته ، المتمادي في رذالته . قال في القاموس : البذي الرجل الفاحش والأنثى بالهاء يعني بذية ، وقد بذو بذاء وبذاءة [ ص: 478 ] وبذوت عليهم وأبذيتهم من البذاء وهو الكلام القبيح ، انتهى .

وقال في مطالع الأنوار : قوله كانت تبذو على أهلها أي تفحش في القول بذو يبذو بذوا . كذا قيده القتبي . وقال الهروي فيما رويناه عن ابن معدان عن أبي الحسين : كانت بذاء بكسر الباء ومباذاة وبذاءة فهو بذيء وبذي أي مهموز أو غير مهموز .

وقد روى الترمذي وصححه وابن حبان في صحيحه عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن ، وإن الله يبغض الفاحش البذيء } .

قال المنذري : البذيء بالذال المعجمة ممدودا هو المتكلم بالفحش ورديء الكلام انتهى . فلم يذكر إلا أنه ممدود وقد علمت أنه يهمز ولا يهمز كما في المطالع . واقتصر في القاموس على أنه مقصور فقال : البذي كرضي الفاحش .

وإنما نهاك الناظم رحمه الله تعالى عن مصاحبة مثل الهماز والبذي لئلا تقتدي بهما وتسرق طبيعتك من طبيعتهما ( فإن المرء ) وإن تحرز مهما أمكنه ولو صالحا إذا ألم ( بالمرء ) البذي والقتات والهماز ( يقتدي ) به في سيرته وتسرق طبيعته من قبح ما انطوت عليه مفاسد سريرته .

وفي الحديث الشريف { يحشر المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل } ولفظ تبصرة ابن الجوزي { المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل } . وفي كلام أرسطو طاليس : الأشكال لاحقة بأشكالها كما أن الأضداد مباينة لأضدادها . وقال : من لم يرفع نفسه عن قدر الجاهل رفع الجاهل قدره عليه .

وقال الشاعر :

    فما ينفع الجرباء قرب صحيحة
إليها ولكن الصحيحة تجرب     فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة
وإن كنت تدري فالمصيبة أصعب

وقال آخر على وزانهما وأحسن :

فصاحب تقيا عالما تنتفع به     فصحبة أهل الخير ترجى وتطلب
وإياك والفساق لا تصحبنهم     فقربهم يعدي وهذا مجرب
فإنا رأينا المرء يسرق طبعه     من الإلف ثم الشر للناس أغلب [ ص: 479 ]
كما قيل طين لاصق أو مؤثر     كذا دود مرج خضرة منه يكسب
وجانب ذوي الأوزار لا تقربنهم     فقربهم يردي وللعرض يسلب

وقال آخر :

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه     فإن المقارن للمقارن ينسب

وقد { قال صلى الله عليه وسلم المرء مع من أحب } في عدة أحاديث صحاح في البخاري ومسلم وغيرهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية