غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
وقد مدح سبحانه وتعالى المستيقظين بالليل لذكره ودعائه واستغفاره ومناجاته بقوله : { تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } وقال تعالى { والمستغفرين بالأسحار } . وقال تعالى { والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما } . ونفى سبحانه التسوية بين المتهجدين وبين غيرهم في قوله { أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو [ ص: 499 ] رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، إنما يتذكر أولو الألباب } .

وقالت عائشة رضي الله عنها لرجل : { لا تدع قيام الليل فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدعه ، وكان إذا مرض أو قالت كسل صلى قاعدا } . وفي رواية عنها رضي الله عنها { قالت : بلغني عن قوم يقولون إن أدينا الفرائض لم نبال أن لا نزداد ، ولعمري لا يسألهم الله إلا عما افترض عليهم ولكنهم قوم يخطئون بالليل والنهار ، وما أنتم إلا من نبيكم ، وما نبيكم إلا منكم ، والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام الليل . ونزعت كل آية فيها قيام الليل } . فأشارت عائشة رضي الله تعالى عنها إلى أن قيام الليل فيه فائدتان عظيمتان : الاقتداء بسنة ينبوع الهدى ، والتأسي بالشفيع غدا ، ومعدن الاهتداء . وقال تعالى { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } وتكفير الذنوب والخطايا ، من منفس الكروب ومانح العطايا . فإن بني آدم يخطئون بالليل والنهار ، فيحتاجون إلى الاستكثار من مكفرات الأوزار .

وقيام الليل من أعظم المكفرات ، كما قال سيد السادات ومعدن السعادات ، لحامل لواء الفقهاء إلى الجنة سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه { قيام العبد في جوف الليل يكفر الخطيئة ثم تلا { تتجافى جنوبهم } الآية } رواه الإمام أحمد رضي الله عنه وغيره .

وقد روي أن المتهجدين يدخلون الجنة بغير حساب .

روي عن شهر بن حوشب رحمه الله عن أسماء بنت يزيد رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء مناد ينادي بصوت يسمع الخلائق : سيعلم الخلائق اليوم من أولى بالكرم ، ثم يرجع فينادي : أين الذين كانوا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ؟ فيقومون وهم قليل ، ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانوا يحمدون الله في السراء والضراء ، فيقومون وهم قليل ، ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانوا تتجافى جنوبهم عن المضاجع ، فيقومون وهم قليل ، ثم يحاسب سائر الناس } خرجه ابن أبي الدنيا والبيهقي . ويروى نحوه عن شهر بن حوشب عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله . ويروى أيضا نحوه من حديث [ ص: 500 ] أبي إسحاق عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر من قوله ومرفوعا أيضا . ويروى نحوه أيضا عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وربيعة الجرشي والحسن وكعب رحمهم الله تعالى .

قال بعض السلف : قيام الليل يهون طول قيام يوم القيامة ، وإذا كان أهله يسبقون إلى الجنة بغير حساب فقد استراح أهله من طول الموقف والحساب .

وفي حديث المنام المشهور الذي أخرجه الإمام أحمد والترمذي { أن الملأ الأعلى يختصمون في الدرجات والكفارات . وفيه أن الدرجات إطعام الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام } . فثبت بهذا أن قيام الليل كما أنه تكفير للسيئات فهو يرفع الدرجات أيضا .

وتقدم حديث { إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها } وأنها لأهل هذه الخصال الثلاثة . فقد ارتفعت درجات قوام الليل به .

قال الإمام الحافظ ابن رجب في كتابه اختيار الأولى ، في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى : الصلاة بالليل من موجبات الجنة ، وقد دل عليه قوله عز وجل { إن المتقين في جنات وعيون . آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين . كانوا قليلا من الليل ما يهجعون . وبالأسحار هم يستغفرون } الآيات . فوصفهم بالتيقظ بالليل والاستغفار بالأسحار . قال : وكان بعض السلف نائما فأتاه آت في منامه فقال له قم فصل أما علمت أن مفاتيح الجنة مع أصحاب الليل هم خزانها هم خزانها .

التالي السابق


الخدمات العلمية