غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
قال الحافظ ابن رجب في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى : ومما يجزى به المتهجدون في الليل كثرة الأزواج من الحور العين في الجنة ، فإن المتهجد قد ترك لذة النوم بالليل ولذة التمتع بأزواجه طلبا لما عند الله عز وجل ، فعوضه الله تعالى خيرا مما تركه وهو الحور العين في الجنة . ومن هنا قال بعضهم : طول التهجد مهور الحور العين في الجنة . كان بعض السلف يحيي الليل في صلاة ففتر عن ذلك فأتاه آت في منامه فقال له : قد كنت يا فلان تدأب في الخطبة فما الذي قصر بك عن ذلك ؟ قال : وما ذاك ؟ قال كنت تقوم من الليل أو ما علمت أن المتهجد إذا قام إلى التهجد قالت الملائكة قد قام الخاطب إلى خطبته .

ورأى بعضهم في منامه امرأة لا تشبه نساء الدنيا ، فقال لها : من أنت ؟ قالت حوراء أمة الله ، فقال لها : زوجيني نفسك ، قالت : اخطبني إلى سيدي وأمهرني ، قال وما مهرك ؟ قالت : طول التهجد .

نام بعض المتهجدين ذات ليلة فرأى في منامه حوراء تنشد :

أتخطب مثلي وعني تنام ونوم المحبين عنا حرام     لأنا خلقنا لكل امرئ
كثير الصلاة براه الصيام

وكان بعض الصالحين له ورد فنام عنه ، فوقف عليه فتى في منامه فقال له بصوت محزون : [ ص: 503 ]

تيقظ ساعات من الليل يا فتى     لعلك تحظى في الجنان بحورها
فتنعم في دار يدوم نعيمها     محمد فيها والخليل يزورها
فقم فتيقظ ساعة بعد ساعة     عساك تقضي ما بقي من مهورها

وكان بعض السلف الصالحين كثير التعبد ، وبكى شوقا إلى الله تعالى ستين سنة ، فرأى في منامه كأنه على ضفة نهر يجري بالمسك حافتاه شجر اللؤلؤ ونبت من قضبان الذهب ، فإذا بجوار مزينات يقلن بصوت واحد : سبحان المسبح بكل لسان سبحانه ، سبحان الموحد بكل مكان سبحانه ، سبحان الدائم في كل الأزمان سبحانه . فقال لهن ما تصنعن هاهنا ؟ فقلن :

ذرأنا إله الناس رب محمد     لقوم على الأقدام بالليل قوم
يناجون رب العالمين إلههم     وتسري هموم القوم والناس نوم

فقال : بخ بخ لهؤلاء من هم ، لقد أقر الله أعينهم بكن ؟ فقلن : أو ما تعرفهم ؟ قال : لا ، فقلن : بلى هؤلاء المتهجدون أصحاب القرآن والسهر .

وفي تبصرة ابن الجوزي قال أحمد بن أبي الحواري : سمعت أبا سليمان يقول : بينما أنا ساجد ذهب بي النوم ، وإذا أنا بالحوراء قد ركضتني برجلها فقالت يا حبيبي أترقد والملك يقظان ينظر إلى المتهجدين في تهجدهم ، بؤسا لعين آثرت لذة نومة على لذة مناجاة العزيز ، قم فقد دنا الفراق ولقي المحبون بعضهم بعضا فما هذا الرقاد ، حبيبي وقرة عيني أترقد عيناك وأنا أربى لك في الخدور ، فوثبت فزعا وقد عرقت استحياء من توبيخها إياي وإن حلاوة منطقها لفي سمعي وقلبي ، انتهى .

وكان أبو سليمان يقول : أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم ، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا . وقال : إذا جن الليل وخلا كل حبيب بحبيبه افترش أهل المحبة أقدامهم ، وجرت دموعهم على خدودهم ، أشرف الجليل جل جلاله فنادى يا جبريل بعيني من تلذذ بكلامي واستروح إلى مناجاتي ، ناد فيهم يا جبريل ما هذا البكاء ، هل رأيتم حبيبا يعذب أحباءه ، أم كيف يجمل بي أن أعذب قوما إذا جنهم الليل تملقوني ، فبي حلفت إذا قدموا علي يوم القيامة ، لأكشفن لهم عن وجهي ، ينظرون إلي وأنظر إليهم " .

[ ص: 504 ] وقال الإمام المحقق ابن القيم في روضة المحبين : العبد إذا رزق حظا من صلاة الليل فإنها تنور الوجه وتحسنه . قال : وقد كان بعض النساء تكثر صلاة الليل ، فقيل لها في ذلك ، فقالت إنها تحسن الوجه وأنا أحب أن يحسن وجهي . انتهى .

قال الحافظ ابن رجب في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى : سئل الحسن البصري لم كان المتهجدون أحسن الناس وجوها ؟ قال : لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورا من نوره .

فإن قلت : لم لم تذكر حديث { من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار } في الاستدلال لذلك ؟ قلت : لأنه موضوع من غير قصد . قال بعض أهل الحديث : اتفق أئمة الحديث على أنه من قول شريك لثابت لما دخل عليه وإن رواه ابن ماجه من حديث جابر . والعجب من الجلال السيوطي مع إطلاعه على وضعه كيف أودعه في كتابه الجامع الصغير . وقصة الحديث مشهورة فلا نطيل الكلام عليه والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية