غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
مطلب : في الحث على العمل بالعلم .

ولما كان المقصود من العلم العمل ، فمن تركه لم ينل إلا الخيبة والوجل ، والندامة والخجل . أمرك الناظم به فقال : وكن عاملا بالعلم فيما استطعته ليهدى بك المرء الذي بك يقتدي ( وكن ) أيها الطالب ، الذي في مرضاة مولاك راغبا ( عاملا بالعلم ) الذي بذلت وسعك في تحصيله ، وتبويبه وتفصيله ، وتركت فيه الرقاد ، ورفضت لأجله المهاد والوساد ، وصرمت النساء والأولاد ، وهجرت الوطن والميلاد ، وألفت السهاد ، وعزفت الأخدان والأحفاد ، والإخوان والأجداد ( فيما ) أي القدر الذي ( استطعته ) من ذلك ، ومعنى استطاع أطاق ، ويقال اسطاع بحذف التاء استثقالا لها مع الطاء ، ويكرهون إدغام الطاء فيها فتحرك السين وهي لا تحرك أبدا ، وقرأ حمزة { فما اسطاعوا } بالإدغام ، فجمع بين الساكنين ، وتقدم ذلك ، وهذا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { كل علم وبال على صاحبه إلا من عمل به } رواه الطبراني في الكبير من حديث واثلة بن الأسقع .

ولما روى الإمام أحمد والبيهقي عن منصور بن زاذان قال : نبئت أن بعض من يلقى في النار تتأذى أهل النار بريحه ، فقال له : ويلك ما كنت تعمل أما يكفينا ما نحن فيه من الشر حتى ابتلينا بك وبنتن ريحك ، فيقول كنت عالما فلم أنتفع بعلمي . فاعمل أيها الأخ بعلمك لتسلم من هذا الوعيد الشديد و ( ليهدى ) أي يرشد ويسعد بالاقتداء ( بك ) أي بعملك الصالح ، وكدحك الناجح ( المرء ) أي الإنسان من ذكر وأنثى ( الذي بك ) أي بعملك وجدك واجتهادك في عبادة الله تعالى ( يقتدي ) أي يتبع ويستن بسنتك ، مشتق من القدوة بتثليث القاف وكعدة ما سننت به واقتديت به .

قال في الفروع : وليحذر العالم وليجتهد فإن ذنبه أشد . نقل المروذي [ ص: 521 ] عن الإمام أحمد رضي الله عنه قال : العالم يقتدى به ليس العالم مثل الجاهل .

ومعناه لابن المبارك وغيره .

وقال الفضيل بن عياض : يغفر لسبعين جاهلا قبل أن يغفر لعالم واحد .

قال : وقال شيخنا - يعني شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه - : أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه فذنبه من جنس ذنب اليهود .

وقد قدمنا في صدر هذا الكتاب طرفا صالحا من هذا الباب . وفي القول العلي لشرح أثر سيدنا الإمام علي ما يكفي ويشفي .

والحاصل أن الناس في هذا الباب على أربعة أقسام :

القسم الأول : من رزق علما وأعين بقوة العزيمة على العمل به ، وهم خلاصة الخلق ومراد الحق جل شأنه في قوله : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } .

الثاني : من حرمهما معا ، وهم شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون فهؤلاء شر البرية ، يضيقون الديار ، ويغلون الأسعار ، وعند أنفسهم أنهم يعلمون ، ولكن ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون . كما قيل فيهم وفي أضرابهم وجلهم إذا فكرت فيهم حمير أو كلاب أو ذئاب . وكقول البحتري :

    لم يبق من جل هذا الناس باقية
ينالها الوهم إلا هذه الصور

الثالث : من فتح عليه باب العلم وأغلق عنه باب العمل والعزم ، فهذا في رتبة الجاهل بل شر منه . وعند أبي نعيم مرفوعا { أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه } وتقدم قريبا ، فهذا جهله وعلمه سواء ، بل ربما كان جهله أخف لعذابه من علمه ، فما زاده العلم إلا وبالا ، مع عدم الطمع في صلاحه ، بخلاف التائه عن الطريق فإنه يرجى له العود إليها إذا أبصرها ، وأما من رآها وحاد عنها فمتى ترجى هدايته ؟ ، الرابع : من رزق حظا من العمل والإرادة ولكن قل نصيبه من العلم والمعرفة ، فهذا إذا وافق له الاقتداء بداع من دعاة الله ورسوله كان من الذين قال فيهم الله تعالى : { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم } الآية . ويقال : إذا فسد العالم فسد لفساده العالم .

[ ص: 522 ] وعن عمرو بن عوف رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { إني أخاف على أمتي من ثلاث : من زلة عالم ، ومن هوى متبع ، ومن حكم جائر } رواه البزار والطبراني والله أعلم .

وكن حريصا على نفع الورى وهداهم     تنل كل خير في نعيم مؤبد
( وكن ) أيضا ( حريصا على نفع الورى ) كفتى الخلق ، أي كما أنه أمرك أن تكون عاملا بالعلم أمرك أيضا أن تكون حريصا مجتهدا على نفع الخلق ; لأنهم عيال الله ، فأحب الخلق إلى الله أبرهم لعياله ( و ) كن حريصا أيضا على ( هداهم ) إلى الصراط المستقيم ، والطريق القويم ، ونجاتهم من الغي والضلالة ، والمهلكة والجهالة ( تنل ) بسبب ذلك من المالك ( كل خير ) من خيري الدنيا والآخرة من تخليد الذكر والثناء ، وإدامة العلم والسناء ، والقرب إلى رب الأرض والسماء ، ونور البصيرة والنجاة من الحيرة مع نور اليقين ، وكشف العارفين ، والتلذذ بمناجاة رب العالمين ، ومجاورته في دار الخلد السرمدي ( في نعيم مؤبد ) لا يزول أبدا في دار لا تبلي ثيابها ، ولا يفنى شبابها . وقدمنا في صدر الكتاب بعض أخبار وآثار في هذا المعنى ، فلا حاجة إلى الإعادة والله الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية