غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
مطلب : هل إذا لم يكرر العبد التوبة كلما خطر ذنبه بباله يكون ناقصا للتوبة أم لا ؟

وقال ابن الجوزي : واعلم أن التوبة ندم يورث عزما وقصدا ، وعلامة الندم طول الحزن على ما فات . وعلامة العزم والقصد التدارك لما فات وإصلاح ما يأتي . فإن كان الماضي تفريطا في عبادة قضاها ، أو مظلمة أداها ، أو خطيئة لا توجب غرامة حزن إذ تعاطاها . قال ومن علامات التائب أن يغضب على نفسه كما غضب ماعز والغامدية فأسلماها إلى الهلاك قال وهذا ذكرناه مثالا . وإن كنا لا نرى إلا أن العاصي يستر نفسه . ومنها أن تضيق [ ص: 571 ] الأرض عليه كما ضاقت على كعب بن مالك وصاحبيه . فيستولي عليه الحزن والبكاء فيشغله عن اللهو والضحك . قال ومتى قصر في قضاء دين أو رد مظلمة دل على ضعف التوبة . انتهى .

وقال في نهاية المبتدئين : قال أبو الحسين : التوبة ندم العبد على ما كان منه ، والعزم على ترك مثله كلما ذكره ، وتكرار فعل التوبة كلما خطرت معصيته بباله ، ومن لم يفعل ذلك عاد مصرا ناقضا للتوبة . وهذا معنى كلام ابن عقيل السابق ، لكن أبو الحسين يقول يكون ناقضا للتوبة . وعند ابن عقيل يدل على عدم الندم فلم يوجد عنده توبة شرعية . قال ابن مفلح : وبطلانها بالمعاودة أقرب . قال والأظهر مذهبا ودليلا أنها لا تبطل بذلك .

وفي الفصول لابن عقيل أن المظاهر إذا عزم على الوطء راجع عن تحريمها بعزمه ، وهذا يدل على أن العزم على معاودة الذنب مع التصميم على التوبة نقض للتوبة ، فجعله ناقضا للتوبة بالعزم لا بغيره ، وهذا أظهر من كلامه السابق وكلام أبي الحسين . ثم إن أراد أنه يؤخذ بالذنب السابق الذي تاب منه فهو ضعيف ، وإن أراد انتقاض التوبة وقت العزم بالنسبة إلى المستقبل ، وأنه يؤاخذ من العزم بالنسبة إلى المستقبل فهذا يبنى على المؤاخذة بأفعال القلوب .

قد فصل الإمام الحافظ ابن رجب ذلك تفصيلا حسنا . وحاصله أن الهم بالسيئات من غير عمل لها تارة يتركه الهام به لخوف الله تعالى فيكتب حسنة ، لقوله صلى الله عليه وسلم حاكيا عن الله { إنما تركها من جرائي } يعني من أجلي وهو بفتح الجيم وتشديد الراء ممدودا ومقصورا .

وفي رواية في البخاري من حديث أبي هريرة { وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة } وأما إن تركها خوفا من المخلوقين أو مراءاة لهم فقد قيل إنه يعاقب على تركها بهذه النية ; لأن تقديم خوف المخلوقين على خوف الله محرم .

وكذلك قصد الرياء محرم ، فإذا اقترن به ترك المعصية لأجله عوقب على هذا الترك . وقد روى أبو نعيم بإسناد ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : يا صاحب الذنب لا تأمنن سوء عاقبته ، ولما يتبع الذنب أعظم من الذنب إذا [ ص: 572 ] عملته - فذكر كلاما - وقال : وخوفك من الريح إذا حركت ستر بابك وأنت على الذنب ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك ، أعظم من الذنب إذا عملته .

التالي السابق


الخدمات العلمية