غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
مطلب : هل يجب على القاذف الاعتراف بما فعل إذا سأله المقذوف أم لا ؟

قال : وهذا باب نافع جدا .

فعلى هذا لو سأل المقذوف والمسبوب لقاذفه هل فعل ذلك أم لا ؟ لم يجب عليه الاعتراف على الصحيح من الروايتين ، إذ توبته صحت في حق الله تعالى بالندم ، وفي حق الإنسان بالإحسان إليه بالاستغفار ونحوه . وهل يجوز الاعتراف أو يستحب أو يكره ، الأشبه أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال ، فقد يكون الاعتراف أصفى للقلوب كما يجري بين الأوداء من ذوي الأخلاق الكريمة ، ولما في ذلك من صدق المتكلم . وقد يكون فيه مفسدة العدوان على الناس أو ركوب كبيرة فلا يجوز الاعتراف حينئذ .

قال وإذا لم يجب عليه الإقرار فليس له أن يكذب بالجحود الصريح ، لأن الكذب الصريح محرم والمباح لإصلاح ذات البين هل هو التعريض أو التصريح ، فيه خلاف وتقدم ، فمن جوز التصريح هناك فهل يجوزه هنا ، فيه نظر ، ولكن يعرض ، فإن في المعاريض مندوحة عن الكذب ، فإذا استحلف على ذلك جاز له أن يحلف ويعرض ; لأنه مظلوم بالاستحلاف ، فإنه إذا تاب وصحت توبته لم يبق لذلك عليه حق فلا تجب اليمين عليه .

نعم مع عدم التوبة والإحسان إلى المظلوم يكون باقيا على عدوانه وظلمه ، فإذا أنكر بالتعريض كان كاذبا ، فإذا حلف كانت يمينه غموسا .

وقال شيخ الإسلام أيضا وقد سئلت عن نظر هذه المسألة وهو رجل تعرض لامرأة غيره فزنى بها ثم تاب من ذلك ، وسأله زوجها عن ذلك [ ص: 580 ] فأنكر فطلب استحلافه ، فإن حلف على نفي الفعل كانت يمينه غموسا ، وإن لم يحلف قويت التهمة ، وإن أقر جرى عليه وعليها من الشر أمر عظيم .

قال فأفتيته أنه يضم إلى التوبة فيما بينه وبين الله تعالى الإحسان إلى الزوج بالدعاء والاستغفار أو الصدقة عنه ونحو ذلك مما يكون ذابا إيذاءه له في أهله ، فإن الزنا بها تعلق به حق الله تعالى وحق زوجها من جنس حقه في عرضه ، وليس هو مما ينجبر بالمثل كالدماء والأموال بل هو من جنس القذف الذي جزاؤه من غير جنسه ، فتكون توبة هذا كتوبة القاذف وتعريضه كتعريضه ، وحلفه على التعريض كحلفه .

وأما لو ظلمه في دم أو مال فإنه لا بد من إيفاء الحق فإن له بدلا . وقد نص الإمام أحمد رضي الله عنه بالفرق بين توبة القاتل وتوبة القاذف . قال : وهذا الباب ونحوه فيه خلاص عظيم ، وتفريج كربات للنفوس من آثار المعاصي والمظالم ، فإن الفقيه كل الفقيه الذي لا يؤيس الناس من رحمة الله عز وجل ، ولا يجرئهم على معاصيه ، وجميع النفوس لا بد أن تذنب فتعريف النفوس ما يخلصها من الذنوب من التوبة والحسنات الماحيات كالكفارات والعقوبات هو من أعظم فوائد الشريعة . انتهى .

وقد نص الإمام ابن عقيل على أن الزنا حق للآدمي ، وأنه يملك الإحلال منه بعد وقوع المظلمة لا إباحتها ابتداء كالدم والقذف .

والدليل على أنه حق آدمي أنه يلاعن زوجته ويفسخ نكاحها لأجل التهمة به وغلبة ذلك على ظنه . وإنما يتحالف في حقوق الآدميين . انتهى .

قال ابن مفلح : ولأن الزوج يمنع من وطئها زمن العدة . وبهذا تعلم أن المراد بقولهم أن الحد كفارة أي في حق الله عز وجل ، وأما حق الآدمي فالكلام فيه كغيره من حقوق الآدميين ، ولهذا لو اقتص من القاتل لم يسقط حق الله عز وجل فيه ، مع أنه مبني على المسامحة ، فأولى أن لا يسقط حق الآدمي هنا . ولا يلزم أن يختص بعقوبة في الدنيا سوى الحد الذي هو حق الله عز وجل في القصاص وقذف الآدمي بزنا أو غيره بشيء كما في الآداب والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية