غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
مطلب : في مثالب الكذب .

وأما مثالب الكذب فهي أكثر من أن تذكر . فأخرج الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة : اصدقوا إذا حدثتم ، وأوفوا إذا وعدتم ، وأدوا إذا اؤتمنتم ، واحفظوا فروجكم ، وغضوا أبصاركم ، وكفوا أيديكم } .

ورواه ابن أبي شيبة وأبو يعلى والحاكم والبيهقي من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعا بلفظ { تقبلوا لي ستا أتقبل لكم الجنة : إذا حدث أحدكم فلا يكذب ، وإذا وعد فلا يخلف ، وإذا اؤتمن فلا يخن ، غضوا أبصاركم ، وكفوا أيديكم ، واحفظوا فروجكم } .

[ ص: 144 ] وأخرج الترمذي وقال حسن صحيح عن سيدنا الحسن بن علي رضوان الله عليهما قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم { دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة } . وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { : عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر ، والبر يهدي إلى الجنة ، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا . وإياكم والكذب ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا } .

وأخرج ابن حبان في صحيحه عن سيدنا أبي بكر الصديق رضوان الله عليه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { عليكم بالصدق فإنه مع البر وهما في الجنة ، وإياكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار } ورواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن من حديث معاوية رضي الله عنه .

وأخرج الإمام مالك عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب فينكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه فيكتب عند الله من الكاذبين .

وروى أبو يعلى والطبراني وابن حبان في صحيحه والبيهقي عن أبي برزة مرفوعا { ألا إن الكذب يسود الوجه . والنميمة عذاب القبر } .

وأخرج البخاري عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { رأيت الليلة رجلين أتياني ، قال الذي رأيته يشق شدقيه فكذاب يكذب الكذبة تحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به إلى يوم القيامة } .

وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر } زاد مسلم في رواية له { وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم } .

[ ص: 145 ] وأخرج الإمام أحمد والطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب في المزاحة والمراء وإن كان صادقا } . ورواه أبو يعلى من حديث سيدنا الإمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولفظه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا يبلغ العبد صريح الإيمان حتى يدع المزاح والكذب ، ويدع المراء وإن كان محقا } .

وروى الإمام أحمد قال حدثنا وكيع سمعت الأعمش قال حدثت عن أبي أمامة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب } . ورواه البزار وأبو يعلى ورجاله رجال الصحيح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مرفوعا بلفظ { يطبع المؤمن على كل خلة غير الخيانة والكذب } .

وصح عن الصديق رضي الله عنه وروي مرفوعا { الكذب يجانب الإيمان } رواه البيهقي .

وأخرج الإمام أحمد عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك مصدق وأنت له كاذب } قال الحافظ المنذري : رواه الإمام أحمد عن شيخه عمر بن هارون وفيه خلاف وبقية رواته ثقات .

وأخرج الترمذي وحسنه وابن أبي الدنيا في كتاب الصمت عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إذا كذب العبد تباعد الملك ميلا من نتن ما جاء به } .

وأخرج الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد واللفظ للإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت { ما كان من [ ص: 146 ] خلق أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب ، ما اطلع على أحد من ذلك بشيء فيخرج من قلبه حتى يعلم أنه قد أحدث توبة } .

ولفظ الحاكم { ما كان شيء أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب . وما جربه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد وإن قل فيخرج له من نفسه حتى يجدد له توبة } وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والبيهقي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب ، ويل له ، ويل له } .

وأخرج مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم : شيخ زان ، وملك كذاب ، وعائل مستكبر } . ورواه البزار بإسناد جيد من حديث سلمان رضي الله عنه ولفظه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ثلاثة لا يدخلون الجنة : الشيخ الزاني ، والإمام الكذاب ، والعائل المزهو } العائل هو الفقير ، والمزهو هو المعجب بنفسه المتكبر . وقد قال صلى الله عليه وسلم { كفى بالمرء كذبا } ، وفي رواية { إثما } ، وفي رواية { بحسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع } رواه مسلم عن أبي هريرة . قال في الآداب : ففي هذا الخبر أن من فعل ذلك وقع في الكذب المحرم ، فلا يفعل ليجتنب المحرم ، فيكون من فعل ذلك عمدا فقد تعمد كذبا .

وقال في شرح مسلم : معناه الزجر عن التحديث بكل ما سمع فإنه يسمع في العادة الصدق والكذب ، فإذا حدث بكل ما سمع فقد كذب لإخباره بما لم يكن . قالت الحكماء : من خاف الكذب أقل المواعيد . وقالوا : أمران لا يسلمان من الكذب : كثرة المواعيد ، وشدة الاعتذار .

وقال نافع مولى ابن عمر : طاف ابن عمر سبعا وصلى ركعتين ، فقال له رجل من قريش : ما أسرع ما طفت وصليت يا أبا عبد الرحمن ، فقال [ ص: 147 ] ابن عمر : أنتم أكثر منا طوافا وصياما ونحن خير منكم ، نحن نلتزم صدق الحديث وأداء الأمانة وإنجاز الوعد .

وأنشد محمود الوراق :

أصدق حديثك إن في الصدق الخلاص من الكذب

وقال آخر :

ودع الكذوب لسانه     خير من الكذب الخرس

وقال آخر :

ما أقبح الكذب المذموم صاحبه     وأحسن الصدق عند الله والناس

وقال آخر :

الصدق أولى ما به     دان الفتى فاجعله دينا
ودع النفاق فما     رأيت منافقا إلا مهينا

وقال الحسن البصري : لا تستقيم أمانة رجل حتى يستقيم لسانه ، ولا يستقيم لسانه حتى يستقيم قلبه .

وقال بعض الحكماء : من عرف بالصدق جاز كذبه ، ومن عرف بالكذب لم يجز صدقه . وقالوا : الصدق عز ، والكذب خضوع . وقال لقمان لابنه : يا بني احذر الكذب فإنه شهي كلحم العصفور ، من أكل منه شيئا لم يصبر عنه ، والله أعلم .

( خاتمة ) الكذب من حيث هو حرام إلا فيما تقدم ، ولكنه من الصغائر في المعتمد ، ما لم يكن كذبا على الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو رمى بفتنة فكبيرة . وقد أوضحت ذلك في كتابي شرح منظومة الكبائر إيضاحا تاما . والله الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية