صفحة جزء
الآية الثانية عشرة :

قوله تعالى : { وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } .

فيها خمس عشرة مسألة :

المسألة الأولى : قوله تعالى : { أنشأ } : أي : ابتدأ الفعل من غير احتذاء مثال ; وكان ذلك في يوم الاثنين على ما ورد في [ ص: 280 ] الخبر الصحيح ، وأوضحناه في كتاب المشكلين ، وقد يستعمل أنشأ في كل فعل كان على مثال أو لم يكن . المسألة الثانية : الجنات : هي : البساتين التي يجنها الشجر ، أي : يسترها ; ومنه جن عليه الليل ، ومنه سمي الجن ، لاجتنانهم عن الأبصار ، وكذلك الجنة في قوله تعالى : { وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا } ; سموا بذلك لاجتنانهم .

المسألة الثالثة : قوله تعالى : { معروشات وغير معروشات }

يعني : رفعت على الأعواد ، وصينت عن تدلي الثمر على الأرض ، وأظهرت للإدراك ، وسهل جمعها دون انحناء .

والعرش : كل ما ارتفع فوق غيره . وقيل : تعريشها حياطتها بالجدر ، وما قام مقامها ، حتى لا يكون فيها مدخل لأحد ; والأول أقوى في الاشتقاق . وقد قيل في قوله : { خاوية على عروشها } : يعني على أعاليها ، ولعله على جدرانها ، وأشار بذلك إلى حدائق الأعناب التي هي الكروم في ألسنة العرب ،

ثم قال بعد ذلك وهي :

المسألة الرابعة : { والنخل والزرع مختلفا أكله } وفرق بينهما ; لأنهما أصلا المعاش ، وعمادا القوت ، ثم فرق بين الزيتون والرمان في وزان آخر وهي :

المسألة الخامسة : ووصفها بأنها متشابهة وغير متشابهة ; يعني : أن منها ما يتشابه في الظاهر ، ويخالفه في الباطن ; ومنها ما يشتبه في اللون ، ويختلف في الطعم ; وفي ذلك دليلان عظيمان : أحدهما : على المنة منه سبحانه علينا والنعمة التي هيأها لنا وهي :

المسألة السادسة : فلو شاء ربنا إن خلقنا أحياء ألا يخلق لنا غذاء ، أو إذا خلقه ألا يكون جميل المنظر [ ص: 281 ] طيب الطعم ، أو إذا خلقه كذلك ألا يكون سهل الجني ، فلم يكن عليه أن يفعل ذلك ابتداء لأنه لا يجب عليه شيء ، وإن فعله فبفضله ، كابتداء خلقه : في تعديد النعم وتقرير الفضل والكرم والشهادة على الابتداء بالثواب قبل العقاب ، وبالعطاء قبل العمل .

الدليل الثاني على القدرة في أن يكون الماء الذي من شأنه الرسوب يصعد بقدرة الواحد القادر علام الغيوب من أسافل الشجر إلى أعاليها ، ويترقى من أصولها إلى فروعها ، حتى إذا انتهى إلى آخرها نشأ فيها أوراق ليست من جنسها ، وثمار خارجة عن صفتها ، فيها الجرم الوافر ، واللون الزاهر ، والجني الجديد ، والطعم اللذيذ ; فأين الطبائع وأجناسها ؟ وأين الفلاسفة وأناسها ؟ هل في قدرة الطبيعة إذا سلمنا وقلنا لها قدرة على طريق الجدل أن تتقن هذا الإتقان البديع ، أو ترتب هذا الترتيب العجيب ؟ كلا ، لا يتم ذلك في المعقول إلا لحي عالم قادر مريد ، فقد علم الألباء أن أميا لا ينظم سطور الكتابة ، وأن سواديا لا يقدر على ما في الديباج من التزين والنساجة ; فسبحان من له في كل شيء آية بداية ونهاية ، فمن الله الابتداء ، وإن إلى ربك المنتهى ، تقدس وتعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية