صفحة جزء
الآية الخامسة والعشرون :

قوله تعالى : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون }

فيها ثلاث مسائل : [ ص: 364 ]

المسألة الأولى : في سبب نزولها : روي أن { النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه ، فقرأ أناس من خلفه ، فنزلت هذه الآية : { وإذا قرئ القرآن } ; فسكت الناس خلفه ، وقرأ رسول الله . }

المسألة الثانية : روى الأئمة : مالك ، وأبو داود ، والنسائي عن أبي هريرة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة ، فقال : هل قرأ أحد منكم معي آنفا ؟ فقال رجل ، نعم ، يا رسول الله . فقال : إني أقول : ما لي أنازع القرآن ؟ قال : فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه رسول الله من الصلوات بالقراءة ، حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم . }

وروى مسلم عن عمران بن حصين قال : { صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنا صلاة الظهر أو العصر ، فقال : وأيكم قرأ خلفي بسبح اسم ربك الأعلى ؟ فقال رجل : أنا . فقال رسول الله : قد علمت أن بعضكم خالجنيها } .

وروى الترمذي وأبو داود عن عبادة بن الصامت قال : { صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ، فثقلت عليه القراءة ، فلما انصرف قال : إني لا أراكم تقرءون وراء إمامكم . قال : قلنا : يا رسول الله ; إي والله . قال : فلا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها } . [ ص: 365 ]

وقد روى الناس في قراءة المأموم خلف الإمام بفاتحة الكتاب أحاديث كثيرة ، أعظمهم في ذلك اهتبالا الدارقطني .

وقد جمع البخاري في ذلك جزءا ، وكان رأيه قراءة الفاتحة خلف الإمام في الصلاة الجهرية ، وهي إحدى روايات مالك ، وهو اختيار الشافعي .

وقد روى مالك وغيره عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ، فهي خداج ، فهي خداج ، غير تمام . فقلت : يا أبا هريرة ; إني أحيانا أكون وراء الإمام ، فغمز ذراعي ، وقال : اقرأ بها يا فارسي في نفسك ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فنصفها لي ، ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل . قال رسول الله : اقرءوا ، يقول العبد : الحمد لله رب العالمين يقول الله : حمدني عبدي . يقول العبد : الرحمن الرحيم . يقول الله : أثنى علي عبدي . يقول العبد : مالك يوم الدين . يقول الله : مجدني عبدي . يقول العبد : إياك نعبد وإياك نستعين ، فهذه الآية بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل . يقول العبد : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين . فهؤلاء لعبدي ، ولعبدي ما سأل } . [ ص: 366 ]

وقد اختلفت في ذلك الآثار عن الصحابة والتابعين اختلافا متباينا فروي عن زيد بن أسلم { أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينهون عن القراءة خلف الإمام . }

وقد روي عن ابن مسعود أنه صلى بأصحابه فقرأ قوم خلفه ، فقال : ما لكم لا تعقلون ؟ { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } .

وقد قال أبو هريرة : نزلت الآية في الصلاة . وقيل : كانوا يتكلمون في الصلاة ، فنزلت الآية في النهي عن ذلك .

وروي أن فتى كان يقرأ خلف النبي صلى الله عليه وسلم فيما قرأ فيه النبي ، فأنزل الله الآية فيه .

وقال مجاهد : نزلت في خطبة الجمعة ; وهو قول ضعيف ; لأن القرآن فيها قليل ، والإنصات واجب في جميعها .

وقد روي أن عبادة بن الصامت قرأ بها ، وسئل عن ذلك ، فقال : لا صلاة إلا بها . وأصح منه قول جابر : لا يقرأ بها خلف الإمام خرجه مالك في الموطإ .

وروى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا ركع فاركعوا ، وإذا سجد فاسجدوا ، وإذا قرأ فأنصتوا } ; وهذا نص لا مطعن فيه ، يعضده القرآن والسنة ، وقد غمزه الدارقطني بما لا يقدح فيه .

المسألة الثالثة : الأحاديث في ذلك كثيرة قد أشرنا إلى بعضها ، وذكرنا نبذا منها ، والترجيح أولى ما اتبع فيها . [ ص: 367 ]

والذي نرجحه وجوب القراءة في الإسرار لعموم الأخبار .

وأما الجهر فلا سبيل إلى القراءة فيه لثلاثة أوجه : أحدها : أنه عمل أهل المدينة .

الثاني : أنه حكم القرآن قال الله سبحانه : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } . وقد عضدته السنة بحديثين : أحدهما : حديث عمران بن حصين : { قد علمت أن بعضكم خالجنيها } .

الثاني : قوله : " وإذا قرأ فأنصتوا " .

الوجه الثالث : في الترجيح : إن القراءة مع جهر الإمام لا سبيل إليها فمتى يقرأ ؟ فإن قيل : يقرأ في سكتة الإمام .

قلنا : السكوت لا يلزم الإمام فكيف يركب فرض على ما ليس بفرض ، لا سيما وقد وجدنا وجها للقراءة مع الجهر ، وهي قراءة القلب بالتدبر والتفكر ، وهذا نظام القرآن والحديث ، وحفظ العبادة ، ومراعاة السنة ، وعمل بالترجيح والله أعلم ; وهو المراد بقوله تعالى : { واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين } . وهي :

الآية السادسة والعشرون فقوله : { في نفسك } يعني صلاة الجهر . وقوله : { ودون الجهر من القول } يعني صلاة السر فإنه يسمع فيه نفسه ومن يليه قليلا بحركة اللسان .

فإن قيل : فقد قال بعض الشافعية : إنما خرجت الآية على سبب ; وهو أن قوما كانوا يكثرون اللغط في قراءة رسول الله ، ويمنعون من استماع الأحداث لهم ، كما قال تعالى : { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون } ، فأمر المسلمين بالإنصات حالة أداء الوحي ، ليكون على خلاف حال الكفار .

قلنا : عنه جوابان : [ ص: 368 ] أحدهما : أن هذا لم يصح سنده ; فلا ينفع معتمده .

الثاني : أن سبب الآية والحديث إذا كان خاصا لا يمنع من التعلق بظاهره إذا كان عاما مستقلا بنفسه ، وبالجملة فليس للبخاري ولا للشافعية كلام ينفع بعدما رجحنا به واحتججنا بمنصوصه ، وقد مهدنا القول في مسائل الخلاف تمهيدا يسكن كل جأش نافر .

التالي السابق


الخدمات العلمية