صفحة جزء
المسألة التاسعة : إنما وهم من زعم أن المراد بالآية أهل الكتاب ، لأجل قوله في أول الآية : { يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل } يعني من أهل الكتاب ، فرجع قوله : { والذين يكنزون الذهب والفضة } إليهم .

وهذا لا يصح من وجهين : أحدهما : أن أول الكلام وخصوصه لا يؤثر في آخر الكلام وعمومه ، لا سيما إذا كان مستقلا [ بنفسه ] .

[ ص: 492 ] الثاني : أن هذا إنما كان يظهر لو قال : ويكنزون الذهب والفضة .

أما وقد قال : والذين يكنزون الذهب والفضة ، فقد استأنف معنى آخر يبين أنه عطف جملة على جملة ، لا وصفا لجملة على وصف لها .

ويعضد ذلك الحديث الصحيح ، رواه البخاري وغيره أن الأحنف بن قيس قال : جلست إلى ملأ من قريش ، فجاء رجل أخشن الشعر والثياب والهيئة ، حتى قام فسلم عليهم ، ثم قال : " بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم ، يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه ، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه يتزلزل " . ثم ولى فجلس إلى سارية ، وجلست إليه ، ولا أدري من هو ، فقلت له : لا أرى القوم إلا قد كرهوا ما قلت لهم . قال : إنهم لا يعقلون شيئا قال لي خليلي . قلت : من خليلك ؟ قال : النبي صلى الله عليه وسلم : { يا أبا ذر ; أتبصر أحدا ؟ فنظرت إلى الشمس ما بقي من النهار ، وأنا أرى رسول الله يرسلني في حاجة له . قلت : نعم . قال لي : ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا أنفقه كله ، إلا ثلاثة دنانير ، وإن هؤلاء لا يعقلون ، إنما يجمعون للدنيا ، والله لا أسألهم دنيا ، ولا أستفتيهم عن دين ، حتى ألقى الله } .

قال القاضي : الحلمة : طرف الثدي ، والنغض ، بارز عظم الكتف المحدد .

ورواية أبي ذر لهذا الحديث صحيحة ، وتأويله غير صحيح ، فإن أبا ذر حمله على كل جامع للمال محتجز له ، وإنما المراد به من احتجنه واكتنزه عن الزكاة .

والدليل عليه أمران : أحدهما : ما رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة قال : من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له ماله شجاعا أقرع له زبيبتان ، يطوفه يوم القيامة ، يأخذ بلهزمتيه يعني بشدقيه يقول : أنا مالك ، أنا كنزك . ثم قرأ : { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله } . وقد تقدم بيانه .

[ ص: 493 ] قال القاضي : قوله : ما لم تؤد زكاته ، يريد أو حق يتعلق به ، كفك الأسير ، وحق الجائع ، والعطشان .

وقد بينا أن الحقوق العارضة كالحقوق الأصلية .

وقوله : مثل له ماله شجاعا يعني حية .

وهذا تمثيل حقيقة ; لأن الشجاع جسم والمال جسم ، فتغير الصفات والجسمية واحدة ، بخلاف قوله : يؤتى بالموت فإن تلك طريقة أخرى .

وإنما خص الشجاع ; لأنه العدو الثاني للخلق .

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهن : { ما سالمناهن منذ حاربناهن } .

وقوله : أقرع ، يعني الذي ابيض رأسه من السم .

والزبيبتان : زبدتان في شدقي الإنسان إذا غضب وأكثر من الكلام ، قالت أم غيلان بنت جرير : ربما أنشدت أبي حتى تزبب شدقاي . ضرب مثلا للشجاع الذي يتمثل كهيئة المال ، فيلقى صاحبه غضبان . وقال ابن دريد : هما نقطتان سوداوان فوق عينيه . وقيل : هو الشجاع الذي كثر سمه حتى ظهر على شدقيه منه كهيئة الزبيبتين .

وكتب أهل الحديث شجاع بغير ألف بعد العين .

وذكر بعض العلماء أن أهل الكوفة كتبوه بغير ألف ، وقرءوه منصوبا لئلا يشكل بالممدود ، وكذلك نظراؤه .

واللهزمة : الشدقان . وفي رواية : يأخذ بلهزمتيه . وقيل : هما في أصل الحنك .

وفي حديث آخر : { إنه يمثل له ماله شجاعا يتبعه فيضطره فيعطيه يده فيقضمها كما يقضم الفحل } .

فأما حبسه ليده فلأنه شح بالمال وقبض بها عليه ، وأما أخذه بفمه فلأنه أكله ، وأما خروجه من حلمة ثديه إلى نغض كتفه فلتعذيب قلبه وباطنه حين امتلأ بالفرح بالكثرة في المال والسرور في الدنيا ; فعوقب في الآخرة بالهم والعذاب .

التالي السابق


الخدمات العلمية