صفحة جزء
المسألة الخامسة : قوله تعالى { زيادة في الكفر } : قد بينا الكفر وحقيقته ، وذكرنا أنه راجع إلى الإنكار ، فمن أنكر شيئا من الشريعة فهو كافر ; ولأنه مكذب لله ولرسوله ، والزيادة [ فيه ] والنقصان منه حق وصدق [ وكذلك الزيادة في الإيمان والنقصان منه حق وصدق ] ، وبينا حقيقة الإيمان والكفر واختلاف الناس فيهما والحق من ذلك في كتب الأصول على وجه مستوفى ; لبابه أن أهل السنة اختلفوا في الإيمان ; فمنهم من قال : هو المعرفة قاله شيخ السنة ، واختاره لسان الأمة في مواضع . ومنهم من قال : هو التصديق ; قاله لسان الأمة أيضا . ومنهم من قال : هو الاعتقاد والقول والعمل .

فمن قال : إنه المعرفة منهم فقد خالف اللغة ، وتجوز ظاهرها إلى وجه من التأويل فيها .

[ ص: 506 ] ومن قال : إنه التصديق فقد وافق مطلق اللغة ، لكنه قد يكون بمعنى التصديق ، وقد يكون بمعنى الأمان قال النابغة :

والمؤمن العائذات الطير يمسحها ركبان مكة بين الغيل والسند

وأما من قال : إنه الاعتقاد والقول والعمل فقد جمع الأقوال كلها ، وركب تحت اللفظ مختلفات كثيرة ، ولم يبعد من طريق التحقيق في جهة الأصول ولا في جهة اللغة ; أما في جهة اللغة فلأن الفعل يصدق القول أو يكذبه ; قال النبي صلى الله عليه وسلم : { العينان تزنيان ، واليدان تزنيان ، والرجلان تزنيان ، والنفس تمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه } .

فإذا علم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فليتكلم بمقتضى علمه ، وإذا تكلم بما علم فليعمل بمقتضى علمه ، فيطرد الفعل والقول والعلم ، فيقع إيمانا لغويا شرعيا ; أما لغة فلأن العرب تجعل الفعل تصديقا قال تعالى : { واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا } وصدق الوعد اتصال الفعل بالقول .

فإن قيل : هذا مجاز .

قلنا : هذه حقيقة ، وقد بيناه في كتب الأصول ، وعلى هذا المعنى جاء قوله : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } .

وعلى ضده جاء قوله صلى الله عليه وسلم : { من ترك الصلاة فقد كفر } .

إذا ثبت هذا فاختلفوا أيضا في الزيادة فيهما والنقصان كما بيناه في موضعه وهي : المسألة السادسة : فأما من قال : إنه المعرفة أو التصديق بالقلب فأبعد الزيادة فيه والنقصان ; لأنها [ ص: 507 ] أعراض ; وزعموا أن الزيادة أو النقص لا يتصور في الأعراض ، وإنما يتأتى في الأجسام .

وأما من قال : إنه الأعمال فتصور فيها الزيادة والنقصان .

وقد سئل مالك : هل يزيد الإيمان وينقص ؟ فقال : يزيد ، ولم يقل ينقص .

وأطلق غيره الزيادة والنقص عليه .

وتحقيق القول في ذلك أن العلم يزيد وينقص ، وكذلك القول ، وكذلك العمل ، والكل بأج واحد وحقيقة واحدة ، لا يختلف في ذلك ولا يخرج واحد منها عنه ، وإن كانت كلها أعراضا كما بينا ; وذلك لأن الشيء لا يزيد بذاته ولا ينقص بها ، وإنما له وجود أول ، فلذلك الوجود أصل ، ثم إذا انضاف إليه وجود مثله وأمثاله كان ذلك زيادة فيه ، وإن عدمت تلك الزيادة فهو النقص ، وإن عدم الوجود الأول الذي يتركب عليه المثل لم يكن زيادة ولا نقصان ; وقدر ذلك في العلم أو في الحركة ، فإن الله سبحانه إذا خلق علما فردا ، وخلق معه مثله أو أمثاله بمعلومات مقدرة فقد زاد علمه ، فإن أعدم الله الأمثال فقد نقص أي زالت الزيادة .

وكذلك لو خلق حركة وخلق معها مثلها أو أمثالها ، فإذا خلق الله للعبد العلم به من وجه وخلق له التصديق به بالقول النفسي ، أو الظاهر ، وخلق له الهدى للعمل به [ وليس العمل ] ، ثم خلق له مثل ذلك وأمثاله فقد زاد إيمانه .

وبهذا المعنى على أحد الأقوال فضل الأنبياء [ على ] الخلق ، فإنهم علموه تعالى من وجوه أكثر من الوجوه التي علمه الخلق بها ، فمن عذيري ممن يقول : إن الأعمال تزيد وتنقص ولا تزيد المعرفة ولا تنقص ; لأنها عرض ، ولا يعلم أن الأعمال أعراض [ ص: 508 ] والحالة فيهما واحدة ; وقد صرح الله بالزيادة في الإيمان في مواضع من كتابه ، فقال : { ويزداد الذين آمنوا إيمانا } .

{ ويزيد الله الذين اهتدوا هدى } .

وقال : { فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا } .

وقال في جهة الكفار : { فزادتهم رجسا إلى رجسهم } .

فأطلق الزيادة في الوجهين :

وقد قال علماؤنا : إن مالكا رضي الله عنه بعلمه وورعه امتنع من إطلاق النقص في الإيمان لوجوه بيناها في كتب الأصول ، منها : أن الإيمان يتناول إيمان الله وإيمان العبد ; فإذا أطلق إضافة النقص إلى مطلق الإيمان دخل في ذلك إيمان الله ، ولا يجوز إضافة ذلك إليه سبحانه لاستحالته فيه عقلا ، وامتناعه شرعا .

وعلى هذا يجوز إضافة ذلك إلى إيمان العبد على التخصيص ، بأن يقول : إيمان الخلق يزيد وينقص .

ومنها أن الإيمان من المعاني التي يجب مدحها ، ويحرم ذمها شرعا ، والنقص صفة ذم ; فلا يجوز أن يطلق على ما يستحق المدح فيه ، ويحرم الذم ، فإذا تحرر لكم هذا ويسر الله قبول أفئدتكم له فإنه مقلب الأفئدة والأبصار . .

التالي السابق


الخدمات العلمية