صفحة جزء
المسألة الرابعة :

روى عبد الله بن عبد الحكم عن أشهب عن مالك قال : يقول الله : { فماذا بعد الحق إلا الضلال } ؟ فاللعب بالشطرنج والنرد من الضلال .

وروى يونس عن أشهب قال : سئل يعني مالكا عن اللعب بالشطرنج قال : لا خير فيه ، وليس بشيء وهو من الباطل ، واللعب كله من الباطل ، وأنه ينبغي لذي العقل أن تنهاه اللحية والشيب عن الباطل . وقد قال عمر بن الخطاب لأسلم في شيء : أما تنهاك لحيتك هذه ؟ قال أسلم : فمكثت زمانا وأنا أظن أنها ستنهاني . فقيل لمالك لما كان عمر لا يزال يقول فيكون . فقال : نعم [ في رأيي ] .

وروى يونس عن ابن وهب عن مالك أنه سئل عن الرجل يلعب مع امرأته في بيته . فقال مالك : ما يعجبني ذلك ، وليس من شأن المؤمنين اللعب ; يقول الله : { فماذا بعد الحق إلا الضلال } ، وهذا من الباطل .

وروى محمد بن خداش عن مالك أنه سئل عن اللعب بالشطرنج قال : { فماذا بعد الحق إلا الضلال } . رواه عبد العزيز الجهني ; قال : قلت لمالك بن أنس : أدعو الرجل لعبثي . فقال مالك : أذلك من الحق ؟ قلت : لا . قال : { فماذا بعد الحق إلا الضلال } . [ ص: 10 ]

قال القاضي الإمام : هذا منتهى ما تحصل لي من ألفاظ مالك في هذه المسألة ، وقد اعترض بعض المتقدمين عليه من المخالفين ، فقال : ظاهر هذه الآية يدل على أن ما بعد الله هو الضلال ; لأن أولها : { فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال } فهذا في الإيمان والكفر يعني ليس في الأعمال .

وأجاب عن ذلك بعض علماء المتقدمين ، فقال : إن الكفر تغطية الحق ، وكل ما كان من غير الحق يجري هذا المجرى . هذا منتهى السؤال والجواب .

وتحقيقه أن يقال : إن الله أباح وحرم ، فالحرام ضلال ، والمباح هدى ; فإن كان المباح حقا كما اتفق عليه العلماء فالشطرنج من المباح ، فلا يكون من الضلال ; لأن من استباح ما أباح الله لا يقال له ضال ، وإن كان الشطرنج خارجا من المباح فيفتقر إلى دليل ، فإذا قام الدليل على أنه حرام فحينئذ يكون من الضلال الذي تضمنته هذه الآية ، وقد قدمنا القول فيه ، وأن قول الشافعية أنه يخالف النرد ; لأن فيه إكداد الفهم ، واستعمال القريحة ، والنرد قمار غرر لا يعلم ما يخرج له فيه ، كالاستقسام بالأزلام .

وقال علماؤنا : إن الحديث الصحيح الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من لعب بالنردشير فقد غمس يده في لحم الخنزير ودمه } يوجب النهي عن الشطرنج ; لأن الكل يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة ، والفهم يكد في كل واحد منهما وإن تفاضلا فيه .

وأما لعب الرجل مع امرأته بالأربع عشرة فالممتنع لا تفترق فيه المرأة تكون للرجل ولا الأجنبي منه ، كما لا يجوز له أن يلعب معها بالنردشير لعموم النهي فيه ، والأربع عشرة قمار مثله .

وأما الغناء فإنه من اللهو المهيج للقلوب عند أكثر العلماء ، منهم مالك بن أنس ، وليس في القرآن ولا في السنة دليل على تحريمه . [ ص: 11 ]

أما إن في الحديث الصحيح [ دليلا على ] إباحته ، وهو الحديث الصحيح { أن أبا بكر دخل على عائشة وعندها جاريتان حاديتان من حاديات الأنصار ، تغنيان بما تقاولت الأنصار به يوم بعاث ، فقال أبو بكر : أمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله : دعهما يا أبا بكر ، فإنه يوم عيد } فلو كان الغناء حراما ما كان في بيت رسول الله .

وقد أنكره أبو بكر بظاهر الحال ، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم بفضل الرخصة والرفق بالخليقة في إجمام القلوب ; إذ ليس جميعها يحمل الجد دائما .

وتعليل النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يوم عيد يدل على كراهية دوامه ، ورخصته في الأسباب كالعيد ، والعرس ، وقدوم الغائب ، ونحو ذلك من المجتمعات التي تؤلف بين المفترقين والمفترقات عادة . وكل حديث يروى في التحريم أو آية تتلى فيه فإنه باطل سندا ، باطل معتقدا ، خبرا وتأويلا ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الغناء في العيدين ، وفي البكاء على الميت من غير نوح من حديث ثابت ابن وديعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية