صفحة جزء
المسألة الرابعة : قوله : { فيه شفاء للناس } : وقد روى الأئمة ، واللفظ للبخاري قال عروة عن عائشة : { كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الحلواء والعسل } .

وروي أيضا عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن كان في شيء من أدويتكم خير ففي شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو لذعة نار } . وروي أيضا عن أبي سعيد الخدري أن { رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخي يشتكي بطنه . فقال : اسقه عسلا . ثم أتاه الثانية ، فقال : اسقه عسلا . ثم أتاه [ ص: 138 ] الثالثة ، فقال : اسقه عسلا ثم أتاه ، فقال : فعلت ، فما زاده ذلك إلا استطلاقا . فقال : صدق الله ، وكذب بطن أخيك ، اسقه عسلا ، فسقاه فبرئ }

. وكان ابن عمر لا يشكو قرحة ولا شيئا إلا جعل عليه عسلا حتى الدمل إذا خرج عليه طلاه بعسل ، فقيل له في ذلك ، فقال : أليس الله يقول : { فيه شفاء للناس }

. وروي أن عوف بن مالك الأشجعي مرض فقيل له : ألا نعالجك ، قال : ائتوني بماء سماء ، فإن الله يقول : { ونزلنا من السماء ماء مباركا } وأتوني بعسل ، فإن الله يقول : { فيه شفاء للناس } . وأتوني بزيت ، فإن الله يقول : { من شجرة مباركة } فجاءوه بذلك كله ، فخلطه جميعا ثم شربه فبرئ .

وقال مجاهد ، والحسن ، والضحاك : إن الهاء في قوله : " فيه " يعود على القرآن ، أي القرآن شفاء للناس . وهذا قول بعيد ، ما أراه يصح عنهم ; ولو صح نقلا لم يصح عقلا ; فإن مساق الكلام كله للعسل ، ليس للقرآن فيه ذكر ; وكيف يرجع ضمير في كلام إلى ما لم يجر له ذكر فيه ، وإن كان كله منه ؟ ولكنه إنما يراعى مساق الكلام ومنحى القول ، وقد حسم النبي في ذلك ذا الإشكال ، وأزاح وجه الاحتمال حين أمر الذي يشتكي بطنه بشرب العسل ، فلما أخبره بأن العسل لما سقاه إياه ما زاده إلا استطلاقا أمره النبي صلى الله عليه وسلم بعود الشرب له ، وقال له : { صدق الله ، وكذب بطن أخيك } .

المسألة الخامسة : قوله تعالى : { فيه شفاء للناس } : اختلف في محمله ، فقالت طائفة : هو على العموم في كل حال ، ولكل أحد ، كما سقناه من رواية ابن عمر وعوف ، ومنهم من قال : إنه على العموم بالتدبير ; إذ يخلط الخل بالعسل ويطبخ ، فيأتي شرابا ينفع في كل حالة من كل داء .

[ ص: 139 ] وقد اتفق الأطباء عن بكرة أبيهم على مدح عموم منفعة السكنجبين في كل مرض . ومنهم من قال : إن ذلك على الخصوص ، وليس هذا بأول لفظ عام حمل على مقصد خاص ; فالقرآن مملوء منه ، ولغة العرب يأتي فيها العام كثيرا بمعنى الخاص ، والخاص بمعنى العام ; ألا ترى إلى قول الشاعر :

وتراك أمكنة إذا لم أرضها أو يرتبط بعض النفوس حمامها

والمراد كل النفوس ; إذ لا تخلو نفس من ارتباط الحمام لها . والصحيح عندي أنه يجري على نية كل أحد ، فمن قويت نيته ، وصح يقينه ففعل فعل عوف وابن عمر وجده كذلك ، ومن ضعفت نيته وغلبته على الدين عادته أخذه مفهوما على قول الأطباء ، والكل من حكم الفعال لما يشاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية