صفحة جزء
[ ص: 146 ] المسألة الثانية : قوله : { عبدا مملوكا لا يقدر على شيء } : إثبات في نكرة ، فليس يقتضي الشمول ، ولا يعطي العموم ; وإنما يفيد واحدا بهذه الصفة . ويجوز أن يكون العبد المملوك يقدر بأن يقدره مولاه ، فينقسم حال العبيد المماليك إلى قسمين :

أحدهما : ما يكون في أصل وضعه لا يقدر .

الثاني : أن يقدر بأن توضع له القدرة ، ويمكن من التصرف والمنفعة ، وبه قال مالك . وقال أبو حنيفة : لا يقدر وإن أقدر ولا يملك وإن ملك .

وللشافعي قولان . وتعلق أصحاب أبي حنيفة بأنه مملوك ، فلا يملك . أصله البهيمة قال أهل خراسان : وهذا الفقه صحيح ، وذلك أن المملوكية تنافي المالكية ; فإن المملوكية تقتضي الحجر والمنع ، والمالكية تقتضي الإذن والإطلاق ; فلما تناقضا لم يجتمعا . وقال علماؤنا : إن الحياة والآدمية علة الملك ، فهو آدمي حي ، فجاز أن يملك كالحر ، وإنما طرأ عليه الرق عقوبة ، فصار للسيد عليه حق الحجر ، وذمته خالية عن ذلك ، فإذا أذن له سيده وفك الحجر عنه رجع إلى أصله في المالكية بعلة الحياة والآدمية وبقاء ذمته خالية عن ذلك كله .

والذي يدل على صحة هذا قوله صلى الله عليه وسلم : { من باع عبدا وله مال فماله للبائع ، إلا أن يشترطه المبتاع } ، فأضاف المال إلى العبد ، وملكه إياه ، وجعله في البيع تبعا له .

[ ص: 147 ] فإن قيل : هذه إضافة محل ، كما يقال سرج الدابة وباب الدار ، فيضاف ذلك إليها ، إضافة محل لا إضافة تمليك . قلنا : إنما كانت هذه إضافة محل ; لأن الدابة والدار لا يصح منهما الملك ولا يصح لهما التمليك ; بخلاف العبد ، فإنه آدمي حي ، فصح أن يملك ويملك ، وجاز أن يقدر ويقدر .

والدليل القاطع لرأيهم المفسد لكلامهم أنه إذا أذن له سيده في النكاح جاز ، فنقول : من ملك الأبضاع ملك المتاع كالحر ، وهذا لأن البضع أشرف من المال ، فإذا ملك البضع بالإذن فأولى وأحرى أن يملك المال الذي هو دونه في الحرمة بالإذن .

فإن قيل : إنما جاز له النكاح ضرورة ; لأنه آدمي يشتهي طبعا ; فلو منعناه استيفاء شهوته الجبلية لأضررنا به ، ولو سلطناه على اقتضائها بصفة البهائم ، لعطلنا التكليف ; فدعت الضرورة إلى الإذن في النكاح له ; إذ لا يصح الانتفاع بالبضع على ملك الغير ، بخلاف المال ، فإنه يستباح على ملك الغير بالأكل واللباس والركوب ، ويكفي فيه مجرد الإذن والإباحة دون التمليك ، وهذه عمدتهم . وقد أجاب عنها علماؤنا بأجوبة كثيرة ; عمدتها أن الضرورة لا تبيح الفروج ، وإنما إباحتها في الأصل طلبا للنسل بتكثير الخلق ، وتنفيذا للوعد ; فبهذه الحكمة وضعت إباحتها ، وشرع النكاح لاستبقائها .

فقولهم : إنها أبيحت ضرورة غلط . وقد أجابوا عنه بأن النكاح لو كان مباحا له بالضرورة لتقدر بقدر الضرورة ، فلا يجوز له إلا نكاح واحدة . فإن قلتم : إنها ربما لا تعصمه ، فكان من حقكم أن تبلغوه إلى أربع ، كما قال علماؤنا ، فلما لم يفعلوا ذلك استدللنا به على أن هذا الحكم إنما جرى على مقتضى الدليل ، لا بحكم الضرورة . وأما قولهم : إن المملوكية تناقض المالكية على ما بسطوه ، فلا يلزم ; لأنها إنما تناقضها إذا تقابلتا بالبداءة . فأما إذ كان الحجر طارئا بالرق ، وكان الأصل بالحياة [ ص: 148 ] والآدمية الإطلاق ، فلا بأس أن يرفع المالك للحجر حكمه بالإذن ، كما يرتفع في النكاح . ولا جواب لهم عن هذا .

التالي السابق


الخدمات العلمية