صفحة جزء
المسألة الثانية : قوله تعالى { : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه } : فيه قولان : أحدهما : أنه محكم قاله مجاهد وأبو حنيفة .

الثاني : أنه منسوخ بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وقال قتادة : هو منسوخ بقوله تعالى { : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } .

[ ص: 152 ] قال القاضي أبو بكر بن العربي : وقد حضرت في بيت المقدس طهره الله بمدرسة أبي عتبة الحنفي والقاضي الريحاني يلقي علينا الدرس في يوم جمعة ، فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رجل بهي المنظر على ظهره أطمار ، فسلم سلام العلماء ، وتصدر في صدر المجلس بمدارع الرعاء ، فقال له الريحاني : من السيد ؟ فقال له : رجل سلبه الشطار أمس ، وكان مقصدي هذا الحرم المقدس ، وأنا رجل من أهل صاغان من طلبة العلم فقال القاضي مبادرا : سلوه ، على العادة في إكرام العلماء بمبادرة سؤالهم .

ووقعت القرعة على مسألة الكافر إذا التجأ إلى الحرم ، هل يقتل فيه أم لا ؟ فأفتى بأنه لا يقتل ، فسئل عن الدليل ، فقال : قوله تعالى { : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه } .

قرئ : ولا تقتلوهم ولا تقاتلوهم ، فإن قرئ ولا تقتلوهم فالمسألة نص ، وإن قرئ ولا تقاتلوهم فهو تنبيه ; لأنه إذا نهى عن القتال الذي هو سبب القتل كان دليلا بينا ظاهرا على النهي عن القتل .

فاعترض عليه القاضي الريحاني منتصرا للشافعي ومالك وإن لم ير مذهبهما على العادة ، فقال : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى { : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } .

فقال له الصاغاني : هذا لا يليق بمنصب القاضي وعلمه ، فإن هذه الآية التي اعترضت بها علي عامة في الأماكن ، والآية التي احتججت بها خاصة ، ولا يجوز لأحد أن يقول إن العام ينسخ الخاص ، فأبهت القاضي الريحاني ، وهذا من بديع الكلام .

وقد سأل بعض المتأخرين من أصحابنا أهل بلادنا ، فقال لهم : إن العام عند أبي حنيفة [ ص: 153 ] ينسخ الخاص ، وهذا البائس ليته سكت عما لا يعلم ، وأمسك عما لا يفهم ، وأقبل على مسائل مجردة .

وقد روى الأئمة عن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة : إن هذا البلد حرمه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة ، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي وإنما أحلت لي ساعة من نهار } .

فقد ثبت النهي عن القتال فيها قرآنا وسنة ; فإن لجأ إليها كافر فلا سبيل إليه ، وأما الزاني والقاتل فلا بد من إقامة الحد عليه ; إلا أن يبتدئ الكافر بالقتال فيها فيقتل بنص القرآن .

التالي السابق


الخدمات العلمية