صفحة جزء
المسألة الثانية : قوله : { سامرا }

قال المفسرون : حلقا حلقا ، وأصله التحلق بالليل للسمر ، وكنى بقوله : سامرا عن الجماعة ، كما يقال : باقر وجامل لجماعة البقر والجمال ، وقد جاء في المثل : لا أكلمه السمر والقمر يعني في قولهم : الليل والنهار . وقال الثوري : السمر ظل القمر .

وحقيقته عندي أنه لفظ يستعمل في الليل والنهار ، ولذلك يقال لهما : ابنا سمير ; لأن ذلك في النهار جبلة ، وفي الليل عادة ، فانتظما ، وعبر عنهما به ، وقد قرأه أبو رجاء سمارا جمع سامر .

وقد قال الطبري : إنما وحد سامرا ، وهو في موضع الجمع ; لأنه وضع موضع الوقت يعني والوقت واحد ، وإذا خرج الكلام عن الفاعل أو الفعل إلى الوقت وحد ليدل على خروجه عن بابه . [ ص: 326 ] المسألة الثالثة : قوله : { تهجرون } :

قرئ برفع التاء وكسر الجيم ، وبنصب التاء وضم الجيم ; فالأول عندهم من أهجر إذا نطق بالفحش . والثاني من هجر إذا هذى ، ومعناه تتكلمون بهوس ، ولا يضر النبي صلى الله عليه وسلم ولا يتعلق به ; إنما ضرره نازل بكم ، وقد بينا حقيقة " هجر " في سورة النساء .

ولذلك فسرها سعيد بن جبير ، فقال : مستكبرين بحرمي ، تهجرون نبي وزاد قتادة أن سامر الحرم آمن ، لا يخاف بياتا ، فعظم الله عليهم السمر في الأمن وإفناءه في سب الرسول . المسألة الرابعة :

روى سعيد بن جبير عن ابن عباس ، إنما كره السمر حين نزلت هذه الآية : { مستكبرين به سامرا تهجرون } يعني أن الله ذم قوما بأنهم يسمرون في غير طاعة الله ، إما في هذيان ، وإما في إذاية .

وفي الصحيح عن أبي برزة وغيره : { كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره النوم قبلها والحديث بعدها } يعني صلاة العشاء الآخرة ; أما الكراهية للنوم قبل العشاء فلئلا يعرضها للفوات .

وكذلك قال عمر فيها : " فمن نام فلا نامت عينه ، فمن نام فلا نامت عينه ، فمن نام فلا نامت عينه " .

وأما كراهية السمر بعدها ; فلأن الصلاة قد كفرت خطاياه ، لينام على سلامة ، وقد ختم الملك الكريم الكاتب صحيفته بالعبادة ، فيملؤها بالهوس ، ويجعل خاتمها الباطل أو اللغو ; وليس هذا من فعل المؤمنين .

وقد قيل : إنما يكره السمر بعدها لما روى جابر بن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 327 ] { إياكم والسمر بعد هدأة الرجل ; فإن أحدكم لا يدري ما يبث الله من خلقه ، أغلقوا الأبواب ، وأوكوا السقاء ، وخمروا الآنية ، وأطفئوا المصابيح } . وكان عمر يجدب السمر بعد العشاء ، أي يعيبه ، ويطوف بالمسجد بعد العشاء الآخرة ، ويقول : " الحقوا برحالكم ، لعل الله أن يرزقكم صلاة في بيوتكم " وقد كان يضرب على السمر حينئذ ويقول : " أسمرا أول الليل ، ونوما آخره ، أريحوا كتابكم " ، حتى إنه روي عن عبد الله بن عمر أنه قال : " من قرض بيت شعر بعد العشاء لم تقبل له صلاة حتى يصبح " وأسنده شداد بن أوس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال البخاري : باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء ، وذكر قرة بن خالد قال : انتظرنا الحسن ، وراث علينا ، حتى جاء قريبا من وقت قيامه ، فقال : دعانا جيراننا هؤلاء . ثم قال : قال أنس : انتظرنا النبي ذات ليلة حتى إذا كان شطر الليل ، فجاء فصلى ، ثم خطبنا ، فقال : { ألا إن الناس قد صلوا ورقدوا ، وإنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة } . قال الحسن : " وإن القوم لا يزالون في خير ما انتظروا الخير " .

ثم قال : " باب السمر مع الضيف والأهل " : وقال عبد الرحمن بن أبي بكر إن أصحاب الصفة كانوا أناسا فقراء ، وإن النبي قال : { من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث ، وإن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس بسادس } ، وإن أبا بكر [ ص: 328 ] جاء بثلاثة ، وانطلق النبي بعشرة . قال : فهو وأنا وأبي وأمي ، ولا أدري هل قال : وامرأتي وخادم بين بيتنا وبيت أبي بكر ، وإن أبا بكر تعشى عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم لبث حتى صليت العشاء ، ثم رجع فلبث حتى نعس النبي ، فجاء بعدما مضى من الليل ما شاء الله . قالت له امرأته : ما حبسك عن أضيافك ؟ قال : أوما عشيتهم ، قالت : أبوا حتى تجيء . قال : فذهبت أنا فاختبأت . وقال : يا غنثر ، فجدع وسب ، وقال : " كلوا ، لا هنيئا ، والله لا أطعمه أبدا . وايم الله ما كنا نأخذ من لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها " . قال : وشبعوا ، وصارت أكثر مما كانت قبل ذلك ، فنظر إليها أبو بكر ، فإذا هي كما هي أو أكثر . فقال لامرأته : يا أخت بني فراس ، ما هذا قالت : لا ، وقرة عيني ، لهي الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرار ، فأكل منها أبو بكر ، وقال : إنما كان ذلك من الشيطان يعني يمينه ، ثم أكل منها لقمة ، ثم حملها إلى النبي ، فأصبحت عنده ، وكان بيننا وبين قوم عقد ، فمضى الأجل ، ففرقنا اثني عشر رجلا ، مع كل رجل منهم أناس ، الله أعلم كم مع كل رجل ، فأكلوا منها أجمعون ، أو كما قال .

قال الفقيه القاضي أبو بكر رضي الله عنه : هذا يدلك على أن النهي عن السمر إنما هو لأجل هجر القول أو لغوه ، أو لأجل خوف فوت قيام الليل . فإذا كان على خلاف هذا أو تعلقت به حاجة أو غرض شرعي فلا حرج فيه ، وليس هو من منزع الآية ، وإنما هو مأخذ آخر على ما بيناه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية