صفحة جزء
[ ص: 377 ] الآية الخامسة عشرة قوله تعالى : { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون } . فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى : قوله : { يغضوا } يعني يكفوا عن الاسترسال قال الشاعر :

فغض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا

المسألة الثانية : قوله : { يغضوا من أبصارهم } فأدخل حرف { من } المقتضية للتبعيض ، وذكر { ويحفظوا فروجهم } مطلقا . وللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال :

الأول : أن غض الأبصار مستعمل في التحريم ; لأن غضها عن الحلال لا يلزم ; وإنما يلزم غضها عن الحرام ; فلذلك أدخل حرف التبعيض في غض الأبصار ، فقال : من أبصارهم .

الثاني : أن من نظر العين ما لا يحرم ، وهو النظرة الأولى والثانية ، فما زاد عليها محرم ، وليس من أمر الفرج شيء ما يحلل .

الثالث : أن من النظر ما يحرم ، وهو ما يتعلق بالأجانب ; ومنه ما يحلل ، وهو ما يتعلق بالزوجات وذوي المحارم ، بخلاف الفرج ، فإن ستره واجب في الملأ والخلوة ; لحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده معاوية بن حيدة القشيري ; قال : { قلت يا رسول الله ; عوراتنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال : احفظ عورتك إلا من زوجك ، أو ما ملكت يمينك . فقال : الرجل يكون مع الرجل ؟ قال : إن استطعت ألا يراها أحد فافعل . قلت : فالرجل يكون خاليا ؟ قال : الله أحق أن يستحيا منه } . [ ص: 378 ] { وقد ذكرت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحالها معه فقالت : ما رأيت ذلك منه ، ولا رأى ذلك مني } .

المسألة الثالثة : قوله : { ويحفظوا فروجهم } يعني به العفة ، وهو اجتناب ما نهى الله عنه فيها . وقد تقدم بيانه . وقال أبو العالية : المراد به هاهنا حفظها عن الأبصار ، حتى لا يراها أحد ، وقد تقدم وجوب سترها وشيء من أحكامها في البقرة والأعراف ، وإيضاحه في شرح الحديث والمسائل . المسألة الرابعة : قوله : { ذلك أزكى لهم } :

يريد أطهر على معاني الزكاة فإنه إذا غض بصره كان أطهر له من الذنوب ، وأنمى لأعماله في الطاعة ; ولذلك { قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي : يا علي ، إن لك كنزا في الجنة ، وإنك ذو قرنيها ، فلا تتبع النظرة النظرة ; فإن الأولى لك والثانية ليست لك } وهو أيضا أفرغ لباله وأصلح لأحواله . وقد أنشد أرباب الزهد :

وأنت إذا أرسلت طرفك رائدا     لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر     عليه ولا عن بعضه أنت صابر

وقالوا : من أرسل طرفه أدنى حتفه ، ومن غض البصر كفه عن التطلع إلى المباحات من زينة الدنيا وجمالها ، كما قال الله لنبيه : { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى } يريد ما عند الله تعالى . [ ص: 379 ] وفي الإسرائليات أن رجلا كان قائما يصلي فنظر إلى امرأة بإحدى عينيه ، فتطأطأ إلى الأرض ، فأخذ عودا ففقأ به عينه التي نظر بها إلى المرأة ، وهي من خير عين تحشر .

وتحكي الصوفية أن امرأة كانت تمشي على طريق ، فاتبعها رجل حتى انتهت إلى باب دارها ، فالتفتت إليه فقالت له : يا هذا ; ما لك تتبعني ؟ فقال لها : أعجبتني عيناك . فقالت : البث قليلا ، فدخلت دارها ، ثم فقأت عينيها في سكرجة ، وأخرجتهما إليه ، وقالت له : خذ ما أعجبك ، فما كنت لأحبس عندي ما يفتن الناس مني .

التالي السابق


الخدمات العلمية