صفحة جزء
المسألة الخامسة قوله تعالى : { وفصل الخطاب } قيل : هو علم القضاء ، وقيل : هو الإيجاز بجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل . وقيل : هو قوله : أما بعد . وكان أول من تكلم بها ، فأما علم القضاء فلعمر إلهك إنه لنوع من العلم مجرد ، وفضل منه مؤكد غير معرفة الأحكام والبصر بالحلال والحرام ، ففي الحديث : { أقضاكم علي ، وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل } .

وقد يكون الرجل بصيرا بأحكام الأفعال عارفا بالحلال والحرام ، ولا يقوم بفصل القضاء فيها ، وقد يكون الرجل يأتي القضاء من وجهه باختصار من لفظه وإيجاز في طريقه بحذف التطويل ، ورفع التشتيت ، وإصابة المقصود .

ولذلك يروى { أن علي بن أبي طالب قال : لما بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن حفر قوم زبية للأسد ، فوقع فيها الأسد ، وازدحم الناس على الزبية ، فوقع فيها رجل ، وتعلق بآخر ، وتعلق الآخر بآخر ، حتى صاروا أربعة ، فحرجهم الأسد فيها ، فهلكوا ، وحمل القوم السلاح ، وكاد يكون بينهم قتال ، فأتيتهم فقلت لهم : أتقتلون مائتي رجل من أجل أربعة أناسي ، تعالوا أقض بينكم بقضاء ، فإن رضيتم فهو قضاء بينكم ، وإن أبيتموه رفعت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ; فهو أحق بالقضاء ; فجعل للأول ربع الدية ، وللثاني ثلث الدية ، وللثالث نصف الدية ، وجعل للرابع الدية ، وجعل الديات على من حفر الزبية على قبائل الأربع . فسخط بعضهم ، ورضي بعضهم ، ثم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 36 ] فقصوا عليه القصة ، فقال : أنا أقضي بينكم . فقال قائل : إن عليا قد قضى بيننا ، وأخبروه بما قضى به علي . فقال عليه السلام : القضاء كما قضاه علي } .

وفي رواية : { فأمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاء علي } .

وكذلك يروى في المعرفة بالقضاء أن أبا حنيفة جاء إليه رجل ، فقال : إن ابن أبي ليلى وكان قاضيا بالكوفة جلد امرأة مجنونة قالت لرجل : يا بن الزانيين . فحدها حدين في المسجد ، وهي قائمة . فقال : أخطأ من ستة أوجه .

وهذا الذي قاله أبو حنيفة بالبديهة لا يدركه أحد بالروية إلا العلماء .

فأما قصة علي فلا يدركها الشادي ولا يلحقها بعد التمرن في الأحكام إلا العاكف المتمادي .

وتحقيقها أن هؤلاء الأربعة مقتولون خطأ بالتدافع على الحفرة من الحاضرين عليها فلهم الديات على من حفر على وجه الخطأ ، بيد أن الأول مقتول بالمدافعة قاتل ثلاثة بالمجاذبة ، فله الدية بما قتل ، وعليه ثلاثة أرباع الدية للثلاثة الذين قتلهم .

وأما الثاني فله ثلث الدية ، وعليه الثلثان للاثنين اللذين قتلهما بالمجاذبة .

وأما الثالث فله نصف الدية ، وعليه النصف ; لأنه قتل واحدا بالمجاذبة ، فوقعت المحاصة ، وغرمت العواقل هذا التقدير بعد القصاص الجاري فيه . وهذا من بديع الاستنباط .

وأما أبو حنيفة فإنه نظر إلى المعاني المتعلقة فرآها ستة : الأول : أن المجنون لا حد عليه ; لأن الجنون يسقط التكليف ، هذا إذا كان القذف في حالة الجنون ، فأما إذا كان يجن مرة ويفيق أخرى فإنه يحد بالقذف في حال إفاقته .

الثاني : قولها يا بن الزانيين ; فجلدها حدين لكل أب حد ، فإنما خطأه أبو حنيفة فيه بناء على مذهبه في أن حد القذف يتداخل ، لأنه عنده حق لله تعالى كحد الخمر والزنى . [ ص: 37 ]

وأما الشافعي ومالك فإنهما يريان الحد بالقذف حقا للآدمي ، فيتعدد بتعدد المقذوف .

وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف .

الثالث : أنه حد بغير مطالبة المقذوف ، ولا يجوز إقامة حد القذف بإجماع من الأمة إلا بعد المطالبة بإقامته ممن يقول إنه حق لله ، ومن يقول إنه حق للآدمي . وبهذا المعنى وقع الاحتجاج لمن يرى أنه حق للآدمي ; إذ يقول : لو كان حقا لله لما توقف على المطالبة كحد الزنا .

الرابع أنه والى بين الحدين ، ومن وجب عليه حدان لم يوال بينهما ، بل يحد لأحدهما ، ثم يترك حتى يندمل الضرب أو يستبل المضروب ، ثم يقام عليه الحد الآخر .

الخامس أنه حدها قائمة ، ولا تحد المرأة إلا جالسة مستورة . قال بعض الناس : في زنبيل ، حسبما بيناه في كتب المسائل .

السادس أنه أقام الحد في المسجد ، ولا يقام الحد فيه إجماعا . وفي القصاص في المسجد والتعزير فيه خلاف قدمنا بيانه فيما سلف من هذا الكتاب وفي كتب المسائل والخلاف ; فهذا هو فصل الخطاب وعلم القضاء الذي وقعت الإشارة إليه على أحد التأويلات في الحديث المروي : { أقضاكم علي } ، حسبما أشرنا إليه آنفا .

وأما من قال : إنه الإيجاز فذلك للعرب دون العجم ، ولمحمد صلى الله عليه وسلم دون العرب ، وقد بين هذا بقوله : { أوتيت جوامع الكلم } ، وكان أفصح الناس بعده أبو بكر الصديق ، حسبما بيناه في آيات الكتاب في سورة براءة وفي سورة النور .

وأما من قال : إنه قوله : " أما بعد { فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته : أما بعد } . ويروى أن أول من قالها في الجاهلية سحبان وائل ، وهو أول من آمن بالبعث ، وأول من اتكأ على عصا ، وعمر مائة وثمانين سنة .

ولو صح أن داود قالها فإنه لم يكن ذلك منه بالعربية على هذا النظم ، وإنما كان بلسانه .

والله أعلم . [ ص: 38 ]

وقد روى ابن وهب عن مالك أن الحكمة المعرفة بالدين ، والفقه فيه ، والاتباع له .

وروي عن ابن زيد أن فصل الخطاب هو الفهم وإصابة القضاء .

قال ابن العربي : وهذا صحيح ; فإن الله تعالى يقول في وصف كتابه العزيز : { إنه لقول فصل وما هو بالهزل } لما فيه من إيجاز اللفظ ، وإصابة المعنى ، ونفوذ القضاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية