صفحة جزء
الآية التاسعة قوله عز وجل : { رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب } .

فيها ثلاث مسائل : المسألة الأولى كيف سأل سليمان الملك ، وهو من ناحية الدنيا ؟ قال علماؤنا : إنما سأله ليقيم فيه الحق ، ويستعين به على طاعة الله ، كما قال يوسف : { اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم } . كما تقدمت الإشارة إليه . المسألة الثانية : كيف منع من أن يناله غيره ؟

قال علماؤنا : فيه أجوبة سبعة : الأول إنما سأل أن يكون معجزة له في قومه وآية في الدلالة على نبوته .

الثاني : أن معناه لا تسلبه عني .

الثالث : لا ينبغي لأحد من بعدي أن يسأل الملك ، بل يكل أمره إلى الله .

الرابع لا ينبغي لأحد من بعدي من الملوك ، ولم يرد من الأنبياء .

الخامس أنه أراد القناعة .

السادس أنه أراد ملكه لنفسه . [ ص: 58 ]

السابع علم أن محمدا عبده ولم يسأله إياه ليفضل به . المسألة الثالثة : في التنقيح لمناط الأقوال :

أما قول من قال : إنه سأل ذلك معجزة فليس في ذلك تخصيص بفائدة ; لأن من شأن المعجزة أن تكون هكذا .

وأما من قال : معناه لا تسلبه عني ، فإنما أراد ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي أن يدعيه باطلا ; إذ كان الشيطان قد أخذ خاتمه وجلس مجلسه ، وحكم في الخلق على لسانه ، حسبما روي في كتب المفسرين . وهو قول باطل قطعا ; لأن الشيطان لا يتصور بصورة الأنبياء ، ولا يحكمون في الخلق بصورة الحق ، مكشوفا إلى الناس : بمرأى منهم ; حتى يظن الناس أنهم مع نبيهم في حق ، وهم مع الشيطان في باطل ; ولو شاء ربك لوهب من المعرفة والدين لمن قال هذا القول ما يزعه عن ذكره ، ويمنعه من أن يخلده في ديوان من بعده ، حتى يضل به غيره .

وأما من قال : إن معناه لا ينبغي لأحد من بعدي أن يسأل الملك فإن ذلك إنما كان يصح لو جاء بقوله : { لا ينبغي لأحد من بعدي } في سعة الاستئناف للقول والابتداء بالكلام .

أما وقد جاء مجيء الجملة الحالة محل الصفة لما سبق قبلها من القول فلا يجوز تفسيره بهذا لتناقض المعنى فيه وخروج ذلك عن القانون العربي .

وأما من قال : إن معناه لا ينبغي لأحد من بعدي من الملوك دون الأنبياء فهذا قول قليل الفائدة جدا ; إذ قد علم قطعا ويقينا هو والخلق كلهم معه أن الملوك لا سبيل لهم إلى ذلك ، لا بالسؤال ، ولا مع ابتداء العطاء ، وهو مع ما بعده أمثل من غيره مما يستحيل وقوعه . وأما من قال : إنه علم أن عيسى عليه السلام على درجة من الزهد ، وأن محمدا عبد لا ملك ، فأراد أن سليمان علم أن أحدا من الأنبياء بعده لا يؤتى ذلك ، وأن محمدا مع فضله لا يسأله ، لأنه نبي عبد ، وليس بنبي ملك ، فحينئذ أقدم على السؤال ، وهو قول متماثل [ ص: 59 ] ويشبه أن يكون الله تعالى أذن له في ذلك ، وأنه يعطيه بسؤاله ، كما غفر لمحمد صلى الله عليه وسلم بشرط استغفاره . والله أعلم .

وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن عفريتا تفلت علي البارحة ليقطع علي صلاتي ، فأمكنني الله منه ، وأردت أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد ، ثم ذكرت قول أخي سليمان : { رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي } . فأرسلته ، فلولا ذلك لأصبح يلعب به ولدان المدينة } .

وهذا يدل على مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم لدعائه ، وأن معناه لا يكون لأحد في حياته ولا بعد مماته ، وذلك بإذن من الله تعالى مشروع ; إذ لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم غيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية