صفحة جزء
الآية الخامسة قوله تعالى : { يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون } .

وفيها سبع مسائل : المسألة الأولى الجنة مخصوصة بالحرير والفضة والذهب لبسا وأكلا وشربا وانتفاعا ، وقطع الله ذلك في الدنيا عن الخلق إجماعا على اختلاف في الأحكام ، وتفصيل في الحلال والحرام ، فأما الحرير وهي : المسألة الثانية فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : { من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة } .

قال الراوي : وإن لبسه أهل الجنة لم يلبسه هو ، فظن الناس أن ذلك من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من تأويل الراوي . وقد بينا تأويل هذا الحديث في كتاب المشكلين في شرح الحديث بما يغني عن إعادته هاهنا .

وأمثلها تأويلان : أحدهما أن معناه ولم يتب ، كما قال : { من شرب الخمر في الدنيا ولم يتب منها حرمها في الآخرة } ، وكذلك خرجه مسلم وغيره في الحرير أيضا بنصه . [ ص: 93 ]

الثاني : وهو الذي يقضى [ بنصه ] على الأول أن معناه في حال دون حال ، وآخر الأمر إلى حسن العاقبة وجميل المآل .

وقد اختلف العلماء في لباس الحرير على تسعة أقوال :

الأول : أنه محرم بكل حال .

الثاني : أنه محرم إلا في الحرب .

الثالث : أنه محرم إلا في السفر .

الرابع : أنه محرم إلا في المرض .

الخامس : أنه محرم إلا في الغزو .

السادس : أنه مباح بكل حال .

السابع : أنه محرم إلا العلم .

الثامن : أنه محرم على الرجال والنساء .

التاسع : أنه محرم لبسه دون فرشه ; قاله أبو حنيفة وابن الماجشون .

فأما كونه محرما على الإطلاق فلقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلة السيراء : { إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة } ، وشبهه .

وأما من قال : إنه محرم إلا في الحرب فهو اختيار ابن الماجشون من أصحابنا في الغزو به والصلاة فيه ; وأنكره مالك فيهما .

ووجهه أن لباس الحرير من السرف والخيلاء ، وذلك أمر يبغضه الله تعالى إلا في الحرب ، فرخص فيه من الإرهاب على العدو .

وهذا تعليل من لم يفهم الشريعة ، فظن أن النصر بالدنيا وزخرفها ، وليس كذلك ; بل فتح الله الفتوح على قوم ما كانت حلية سيوفهم إلا العلابي .

وأما من قال : إنه محرم إلا في السفر فلما روي في الصحيح من أن { النبي صلى الله عليه وسلم رخص للزبير وعبد الرحمن بن عوف في قمص الحرير في السفر لحكة كانت بهما } . [ ص: 94 ]

وأما من قال : إنه يحرم إلا في المرض فلأجل إباحة النبي صلى الله عليه وسلم لهما استعماله عند الحكة .

وأما من قال : إنه محرم إلا في الغزو فلأجل ما ورد في بعض طرق أنس { إنه رخص للزبير وعبد الرحمن في قمص الحرير في غزاة لهما } ، فذكر لفظ الغزو في العلة ، وذكر الصفة في الحكم تعليل ، حسبما بيناه في أصول الفقه ومسائل الخلاف وها هنا كما سبق .

وأما من قال : إنه مباح بكل حال فإنه رأى الحديث الصحيح يبيحه للحكة ، وفي بعض ألفاظ الصحيح { لأجل القمل } ، ولو كان حراما ما أباحه للحكة ولا للقمل ، كالخمر والبول ، فإن التداوي بما حرم الله لا يجوز .

وهذا ضعيف ; فإن التحريم قد ثبت يقينا ، والرخصة قد وردت حقا ، وللبارئ سبحانه وتعالى أن يضع وظائف التحريم كيف شاء من إطلاق واستثناء ; وإنما أذن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لهما لأجل القمل والحكة ; لأنهم كانت عندهم خمائص غليظة لا يحتملها البدن ، فنقلهم إلى الحرير ، لعدم دقيق القطن والكتان ، وإذا وجد صاحب الجرب والقمل دقيق الكتان والقطن لم يجز أن يأخذ لين الحرير .

وأما من قال : إنه محرم بكل حال إلا العلم ، فلما في الصحيح من إباحة العلم ، وتقديره بأصبعين . وفي رواية بثلاث أو أربع ; واليقين ثلاث أصابع ، وهو الذي رآه مالك في أشهر قوليه ، والأربع مشكوك فيه ، وقد يجوز أن يكف الثوب بالحرير كما يجوز إدخال العلم فيه ، لما روىالترمذي وغيره { أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له فروة مكفوفة بالديباج } .

وفي صحيح مسلم عن عبد الله مولى أسماء قال : { أخرجت إلي أسماء طيالسة كسروانية ، لها لبنة ديباج ، وفرجاها مكفوفان بالديباج ، فقالت : هذه كانت عند [ ص: 95 ] عائشة تلبسها حتى قبضت . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها ، فنحن نغسلها للمرضى ليستشفى بها } . وهو حديث صحيح ، وأصل صريح . والله أعلم .

وأما من قال : إنه محرم على النساء ففي صحيح مسلم أن عبد الله بن الزبير خطب فقال : ألا لا تلبسوا نساءكم الحرير ; فإني سمعت عمر بن الخطاب يقول : سمعت رسول صلى الله عليه وسلم الله يقول : { لا تلبسوا الحرير ، فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة } .

وهذا ظن من عبد الله يدفعه يقين الحديث الصحيح عن جماعة ، منهم علي بن أبي طالب قال : { أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم حلة سيراء ، فبعث بها إلي فلبستها ، فعرفت الغضب في وجهه ، وقال : إني لم أبعث بها إليك لتلبسها ، إنما بعثتها إليك لتشقها خمرا بين النساء } .

وفي رواية { شققه خمرا بين الفواطم } ، إحداهن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج علي ، والثانية فاطمة بنت أسد بن هاشم زوج أبي طالب أم علي وجعفر وعقيل وطالب بن أبي طالب وكانت أسلمت ، وهي أول هاشمية ولدت لهاشمي . والله أعلم بغيرهما .

وأما من قال : إنما حرم لبسه لا فرشه ، وهو أبو حنيفة فهي نزغة أعجمية لم يعلم ما هو اللباس في لغة العرب ولا في الشريعة ، والفرش والبسط ليس لغة ، وهو كذلك حرام على الرجال في الشريعة ; ففي الصحيح عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء وذكر الحديث قال فيه : { فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس } . وهذا نص .

التالي السابق


الخدمات العلمية