صفحة جزء
الآية السادسة والخمسون :

قوله تعالى : { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } اختلف العلماء رحمة الله عليهم في المرتد ، هل يحبط عمله نفس الردة أم لا يحبط إلا على الموافاة على الكفر ؟ فقال الشافعي : لا يحبط له عمل إلا بالموافاة كافرا .

وقال مالك : يحبط بنفس الردة .

ويظهر الخلاف في المسلم إذا حج ثم ارتد ثم أسلم ، فقال مالك : يلزمه الحج لأن الأول قد حبط بالردة .

وقال الشافعي : لا إعادة عليه لأن عمله باق .

واستظهر عليه علماؤنا بقول الله تعالى : { لئن أشركت ليحبطن عملك } وقالوا هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته لأنه صلى الله عليه وسلم يستحيل منه الردة شرعا .

وقال أصحاب الشافعي : بل هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على طريق التغليظ على الأمة ، وبيان أن النبي صلى الله عليه وسلم على شرف منزلته لو أشرك لحبط عمله ، فكيف أنتم ؟ لكنه لا يشرك لفضل مرتبته ، كما قال الله تعالى : { يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين } ; وذلك لشرف منزلتهن [ ص: 208 ] وإلا فلا يتصور إتيان فاحشة منهن ، صيانة لصاحبهن المكرم المعظم .

قال ابن عباس ، حين قرأ : { ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما } ; والله ما بغت امرأة نبي قط ، ولكنهما كفرتا .

وقال علماؤنا : إنما ذكر الموافاة شرطا هاهنا ، لأنه علق عليها الخلود في النار جزاء ، فمن وافى كافرا خلده الله في النار بهذه الآية ، ومن أشرك حبط عمله بالآية الأخرى ، فهما آيتان مفيدتان لمعنيين مختلفين وحكمين متغايرين ، وما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم فهو لأمته حتى يثبت اختصاصه به ، وما ورد في أزواجه صلى الله عليه وسلم فإنما قيل ذلك فيهن ليبين أنه لو تصور لكان هتكا لحرمة الدين وحرمة النبي صلى الله عليه وسلم ولكل هتك حرمة عقاب ، وينزل ذلك منزلة من عصى في شهر حرام ، أو في البلد الحرام ، أو في المسجد الحرام ، فإن العذاب يضاعف عليه بعدد ما هتك من الحرمات ، والله الواقي لا رب غيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية