صفحة جزء
المسألة السابعة والعشرون قد بينا في كفارة اليمين أن المعتبر الوسط من الإطعام ، وهو مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم .

وقال مالك في رواية ابن القاسم وابن عبد الحكم : مد بمد هشام ، وهو الشبع هاهنا ; لأن الله تعالى أطلق الطعام ولم يذكر الوسط .

وقال في رواية أشهب : مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم . قيل له : ألم تكن قلت : مد هشام ، قال : بلى ، ومدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلي . وكذلك قال عنه ابن القاسم أيضا . ومد هشام هو مدان غير ثلث بمد النبي صلى الله عليه وسلم .

قال أشهب : قلت له : أيختلف الشبع عندنا وعندكم ؟ قال : نعم . الشبع عندنا مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم والشبع عندكم أكثر ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لنا بالبركة دونكم ، وأنتم تأكلون أكثر مما نأكل نحن ، وهذا بين جدا .

قال ابن العربي : وقع الكلام هاهنا كما ترون في مد هشام ، وددت أن يهشم الزمان ذكره ، ويمحو من الكتب رسمه ; فإن المدينة التي نزل الوحي بها ، واستقر بها الرسول ، ووقع عندهم الظهار وقيل لهم فيه : { فإطعام ستين مسكينا } فهموه وعرفوا المراد به ، وأنه الشبع ، وقدره معروف عندهم متقدر لديهم ، فقد كانوا يجوعون لحاجة ويشبعون بسنة لا بشهوة [ ومجاعة ] ، وقد ورد ذكر الشبع في الأخبار كثيرا ، وقد تكلمنا على هذه في الأنوار ، واستمرت الحال على ذلك أيام الخلفاء الراشدين المهديين ، حتى نفخ الشيطان في أذن هشام ، فرأى مد النبي صلى الله عليه وسلم لا يشبعه ، ولا مثله من حاشيه ونظرائه ، فسول له أن يتخذ مدا يكون فيه شبعه ، فجعله رطلين ، وحمل [ ص: 165 ] الناس عليه ، فإذا ابتل عاد نحو ثلاثة أرطال ، فغير السنة ، وأذهب محل البركة .

قال النبي صلى الله عليه وسلم حين دعا ربه لأهل المدينة بالبركة لهم في مدهم وصاعهم : مثل ما بارك لإبراهيم بمكة . فكانت البركة تجري بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم في مده ، فسعى الشيطان في تغيير هذه السنة وإذهاب البركة ، فلم يستجب له في ذلك إلا هشام ، فكان من حق العلماء أن يلغوا ذكره ، ويمحوا رسمه ، وإذا لم يغيروا أمره ، وأما أن يحيلوا على ذكره في الأحكام ، ويجعلوه تفسيرا لما ذكره الله ورسوله بعد أن كان مفسرا عند الصحابة الذين نزل عليهم فخطب جسيم ; ولذلك كانت رواية أشهب في ذكر مدين بمد النبي صلى الله عليه وسلم في كفارة الظهار أحب إلينا من الرواية بأنها بمد هشام .

ألا ترى كيف نبه مالك على هذا العلم بقوله [ لأشهب ] : الشبع عندنا بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، والشبع عندكم أكثر ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لنا بالبركة ، وبهذا أقول ; فإن العبادات إذا أديت بالسنة ، فإن كانت في البدن كان أسرع للقبول ، وإن كانت في المال كان قليلها أثقل في الميزان ، وأبرك في يد الآخذ ، وأطيب في شدقه ، وأقل آفة في بطنه ، وأكثر إقامة لصلبه ، والله الموفق لا رب غيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية