صفحة جزء
المسألة الرابعة إذا حرم الزوجة فقد اختلف العلماء في ذلك على خمسة عشر قولا ، وجمعناها في كتاب المسائل ، وأوضحناها بما مقصوده أن نقول : يجمعها ثلاثة مقامات : المقام الأول : في جميع الأقوال : الأول : أنها يمين تكفر ; قاله أبو بكر الصديق ، وعائشة ، والأوزاعي .

الثاني قال ابن مسعود : تجب فيه كفارة ، وليست بيمين ، وبه قال ابن عباس في إحدى روايتيه ، والشافعي في أحد قوليه .

الثالث : أنها طلقة رجعية ; قاله عمر بن الخطاب ، والزهري ، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون .

الرابع أنها ظهار ; قاله عثمان ، وأحمد بن حنبل .

الخامس أنها طلقة بائنة ; قاله حماد بن سلمة ، ورواه ابن خويز منداد عن مالك . السادس أنها ثلاث تطليقات ; قاله علي بن أبي طالب ، وزيد بن ثابت ، وأبو هريرة [ ومالك ] .

السابع قال أبو حنيفة : إن نوى الطلاق أو الظهار كان ما نوى ، وإلا كانت يمينا وكان الرجل موليا من امرأته . الثامن أنه لا تنفعه نية الظهار ، وإنما يكون طلاقا ; قاله ابن القاسم .

التاسع قال يحيى بن عمر : يكون طلاقا ، فإن ارتجعها لم يجز له وطؤها حتى يكفر كفارة الظهار .

العاشر هي ثلاث قبل وبعد ، لكنه ينوي في التي لم يدخل بها في الواحدة ; قاله مالك ، وابن القاسم . [ ص: 256 ]

الحادي عشر ثلاث ، ولا ينوي بحال ، ولا في محل ; قاله عبد الملك في المبسوط .

الثاني عشر هي في التي لم يدخل بها واحدة ، وفي التي دخل بها ثلاث ; قاله أبو مصعب ، ومحمد بن عبد الحكم .

الثالث عشر أنه إن نوى الظهار ، وهو أن ينوي أنها محرمة كتحريم أمه كان ظهارا ، وإن نوى تحريم عينها عليه بغير طلاق تحريما مطلقا وجبت كفارة يمين ، وإن لم ينو شيئا فعليه كفارة يمين ; قاله الشافعي .

الرابع عشر أنه إن لم ينو شيئا لم يكن شيء .

الخامس عشر أنه لا شيء عليه فيها ; قاله مسروق بن ربيعة من أهل المدينة .

ورأيت بعد ذلك لسعيد بن جبير أن عليه عتق رقبة ، وإن لم يجعلها ظهارا . ولست أعلم له وجها ، ولا يتعدد في المقالات عندي .

المقام الثاني في التوجيه : أما من قال : إنها يمين فقال : سماها الله يمينا في قوله تعالى : { يأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } إلى قوله تعالى : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } ; فسماها الله يمينا ، وهذا باطل ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم حلف على شرب العسل ، وهذه يمين كما قدمنا .

وأما من قال : تجب فيها كفارة وليست بيمين فبناه على أمرين : أحدهما أنه ظن أن الله أوجب الكفارة فيها ولم تكن يمينا ; وقد بينا فساد ذلك .

الثاني : أن معنى اليمين عنده التحريم ، فوقعت الكفارة على المعنى ، ونحن لا نقول به . وقد بينا فساد ذلك فيما تقدم وفي مسائل الخلاف .

وأما من قال : إنه طلقة رجعية ، فبناه على أصل من أصول الفقه ; وهو حمل اللفظ على أقل وجوهه ، والرجعية محرمة الوطء ، فيحمل عليه اللفظ ، وهذا يلزم مالكا لقوله : [ ص: 257 ] إن الرجعية محرمة الوطء . وكذلك وجه من قال : إنه ثلاث ، فحمله على أكبر معناه ; وهو الطلاق الثلاث . وقد بينا ذلك في أصول الفقه ومسائل الخلاف . وأما من قال : إنه ظهار فبناه على أصلين : أحدهما أنه أقل درجات التحريم فإنه تحريم لا يرفع النكاح .

وأما من قال : إنه طلقة بائنة فعول على أن الطلاق الرجعي لا يحرم المطلقة ، وأن الطلاق البائن يحرمها ; لأنه لو قال لها : أنت طالق لا رجعة لي عليك نفذ وسقطت الرجعة ، وحرمت ; فكذلك إذا قال لها : أنت حرام [ علي ] فإنه يكون طلاقا بائنا معنويا ، وكأنه ألزم نفسه معنى ما تقدم ذكره من إنفاذ الطلاق وإسقاط الرجعة . ونحن لا نسلم أنه ينفذ قوله : أنت طالق لا رجعة لي عليك ; فإن الرجعة حكم الله ، ولا يجوز إسقاطه إلا بما أسقطه الله من العوض المقترن به ، أو الثلاث القاضية عليه والغاية له .

وأما قول من قال وهو أبو حنيفة إنها تكون عارية عن النية يمينا فقد تقدم بطلانه . وأما نفي الظهار فيه فينبني على أن الظهار حكم شرعي يختص بمعنى ، فاختص بلفظ ، وهذا إنما يلزم لمن يرى مراعاة الألفاظ ; ونحن إنما نعتبر المعاني خاصة ، إلا أن يكون اللفظ تعبدا .

وأما قول يحيى بن عمر فإنه احتاط بأن جعله طلاقا ; فلما ارتجعها احتاط بأن ألزمه الكفارة . وهذا لا يصح ; لأنه جمع بين المتضادين ، فإنه لا يجتمع ظهار وطلاق في معنى لفظ واحد ، فلا وجه للاحتياط فيما لا يصح اجتماعه في الدليل .

وأما من قال : إنه ينوي في التي لم يدخل بها فلأن الواحدة تبينها وتحرمها شرعا إجماعا .

وكذلك قال من لم يحكم باعتبار نيته : إن الواحدة تكفي قبل الدخول في التحريم بالإجماع ، فيكفي أخذا بالأقل المتفق عليه ; فإن الطلاق الرجعي مختلف في اقتضائه التحريم في العدة . [ ص: 258 ]

وأما من قال : إنها ثلاث فيهما فلأنه أخذ بالحكم الأعظم فإنه لو صرح بالثلاث لنفذت في التي لم يدخل بها نفوذها في التي دخل بها . ومن الواجب أن يكون المعنى مثله وهو التحريم .

وأما القول الثالث عشر فيرجع إلى إيجاب الكفارة في التحريم ، وقد تقدم فساده .

وأما من قال : لا شيء فيها فعمدتهم أنه كذب في تحريم ما أحل الله ، واقتحم ما نهى الله عنه بقوله تعالى : { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } وإنما يكون التحريم في الشرع مرتبا على أسبابه ; فأما إرساله من غير سبب فذلك غير جائز .

والصحيح أنها طلقة واحدة ; لأنه لو ذكر الطلاق لكان أقله وهو الواحدة ، إلا أن يعدده ، كذلك إذا ذكر التحريم يكون أقله ، إلا أن يقيده بالأكثر ; مثل أن يقول : أنت علي حرام إلا بعد زوج ، فهذا نص على المراد . وقد أحكمنا الأسئلة والأجوبة في مسائل الخلاف والتفريع .

المقام الثالث في تصويرها ، وأخرناه في الأحكام القرآنية لما يجب من تقديم معنى الآية ، واستقدمناه في مسائل الخلاف والتفريع ; ليقع الكلام على كل صورة منها . وعدد صورها عشرة : الأولى : قوله : حرام .

الثانية : قوله : علي حرام .

الثالثة : أنت حرام .

الرابعة : أنت علي حرام .

الخامسة : الحلال علي حرام .

السادسة : ما أنقلب إليه حرام .

السابعة : ما أعيش فيه حرام .

الثامنة : ما أملكه حرام علي .

التاسعة : الحلال حرام . [ ص: 259 ]

العاشرة أن يضيف التحريم إلى جزء من أجزائها .

فأما الأولى ، والثانية ، والتاسعة فلا شيء عليه فيها ; لأنه لفظ مطلق لا ذكر للزوجة فيه ، ولو قال : ما أنقلب إليه حرام فهو ما يلزمه في قوله : الحلال علي حرام أنه يدخل فيه الزوجة ، إلا أن يحاشيها . ولا يلزمه شيء في غيرها من المحللات ، كما تقدم بيانه .

واختلف علماؤنا في وجه المحاشاة ، فقال أكثر أصحابنا : إن حاشاها بقلبه خرجت .

وقال أشهب : لا يحاشيها إلا بلفظه ، كما دخلت في لفظه . والصحيح جواز المحاشاة بالقلب بناء على أن العموم يختص بالنية .

وأما إضافة التحريم إلى جزء من أجزائها فشأنه شأنه فيما إذا أضاف الطلاق إلى جزء من أجزائها ، وهي مسألة خلاف كبيرة .

قال مالك والشافعي : يطلق في جميعها . وقال أبو حنيفة : يلزمه الطلاق في ذكر [ الرأس ونحوه ، ولا يلزمه الطلاق في ذكر ] اليد ونحوها ; وذلك في كتب المسائل الخلافية والتفريعية .

التالي السابق


الخدمات العلمية