صفحة جزء
المسألة السادسة عشرة : قوله تعالى : { حتى يطهرن } : [ ص: 228 ] والمسألة السابعة عشرة : قوله تعالى : { فإذا تطهرن } : وهما ملتزمتان ، وقد اختلف الناس فيه اختلافا متباينا نطيل النفس فيه قليلا ; وفيه ثلاثة أقوال :

الأول : أن معنى قوله تعالى : { حتى يطهرن } ; حتى ينقطع دمهن ; قاله أبو حنيفة ، ولكنه ناقض في موضعين ; قال : إذا انقطع دمها لأكثر الحيض حينئذ تحل ، وإن انقطع دمها لأقل الحيض لم تحل حتى يمضي وقت صلاة كامل .

الثاني : لا يطؤها حتى تغتسل بالماء غسل الجنابة ; قاله الزهري وربيعة والليث ومالك وإسحاق وأحمد وأبو ثور .

الثالث : تتوضأ للصلاة ; قاله طاوس ومجاهد .

فأما أبو حنيفة فينقض قوله بما ناقض فيه فإنه تعلق بأن الدم إذا انقطع لأقل الحيض لم يؤمن عودته . قلنا : ولا تؤمن عودته إذا مضى وقت صلاة ، فبطل ما قلته .

والتعلق بالآية يدفع من وجهين :

أحدهما : أن الله تعالى قال : { ولا تقربوهن حتى يطهرن } مخففا . وقرئ " حتى يطهرن " مشددا . والتخفيف وإن كان ظاهرا في استعمال الماء فإن التشديد فيه أظهر لقوله تعالى : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } ; فجعل ذلك شرطا في الإباحة وغاية للتحريم .

فإن قيل : المراد بقوله تعالى : { حتى يطهرن } حتى ينقطع عنهن الدم ; وقد يستعمل التشديد موضع التخفيف ، فيقال : تطهر بمعنى طهر ، كما يقال : قطع وقطع ، ويكون هذا أولى ، لأنه لا يفتقر إلى إضمار ، ومذهبكم يفتقر إلى إضمار قولك بالماء .

قلنا : لا يقال اطهرت المرأة بمعنى انقطع دمها ، ولا يقال قطع مشددا بمعنى قطع مخففا ، وإنما التشديد [ بمعنى ] تكثير التخفيف .

[ ص: 229 ] جواب آخر : وهو أنه قد ذكر بعده ما يدل على المراد ، فقال : " فإذا تطهرن " والمراد بالماء .

والظاهر أن ما بعد الغاية في الشرط هو المذكور في الغاية قبلها ، فيكون قوله تعالى : { حتى يطهرن } مخففا ، وهو معنى قوله " يطهرن " مشددا بعينه ، ولكنه جمع بين اللغتين في الآية ، كما قال تعالى : { فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين } وقال الكميت :

وما كانت الأبصار فيها أذلة ولا غيبا فيها إذا الناس غيب

وقيل : إن قوله تعالى : { فإذا تطهرن } ابتداء كلام لا إعادة لما تقدم ، ولو كان إعادة لاقتصر على الأول فقال : حتى يطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله خاصة ، فلما زاد عليه دل على أنه استئناف حكم آخر .

فالجواب : أن هذا خلاف الظاهر ; فإن المعاد في الشرط هو المذكور في الغاية ، بدليل ذكره بالفاء ، ولو كان غيره لذكره بالواو .

وأما الزيادة عليه فلا تخرجه عن أن يكون بعينه ; ألا ترى أنه لو قال : لا تعط هذا الثوب زيدا حتى يدخل الدار ، فإذا دخل فأعطه الثوب ومائة درهم ، لكان هو بعينه ، ولو أراد غيره لقال : لا تعطه حتى يدخل الدار ، فإذا دخل وجلس فافعل كذا وكذا ; هذا طريق النظم في اللسان .

جواب آخر : وذلك أن قولهم : إنا لا نفتقر في تأويلنا إلى إضمار ; وأنتم تفتقرون إلى إضمار .

قلنا : لا يقع بمثل هذا ترجيح ; فإن هذا الإضمار من ضرورة الكلام ، فهذا كالمنطوق به .

جواب ثالث : وهو المتعلق الثاني من الآية : إنا نقول : نسلم أن قوله تعالى : { حتى يطهرن } أن معناه حتى ينقطع دمهن ، لكنه لما قال بعد ذلك : فإذا تطهرن ، معناه فإذا اغتسلن بالماء تعلق الحكم على شرطين :

أحدهما : انقطاع الدم .

[ ص: 230 ] الثاني : الاغتسال بالماء .

فوقف الحكم وهو جواز الوطء على الشرطين ، وصار ذلك لقوله تعالى : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } فعلق الحكم وهو جواز دفع المال على شرطين :

أحدهما : بلوغ النكاح ، والثاني : إيناس الرشد .

فوقف عليهما ولم يصح ثبوته بأحدهما ، وكذلك قوله تعالى في المطلقة ثلاثا : { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } ثم جاءت السنة باشتراط الوطء ; فوقف التحليل على الأمرين جميعا ، وهما انعقاد النكاح ، ووقوع الوطء ، وعلى هذا عول الجويني .

فإن قيل : هذا حجة عليكم فإنه مد التحريم إلى غاية ، وهي انقطاع الدم ، وما بعد الغاية مخالف لما قبلها ، فوجب أن يحصل الجواز بعد انقطاع الدم لسبب حكم الغاية .

قلنا : إنما يكون حكم الغاية مخالفا لما قبلها إذا كانت مطلقة ، فأما إذا انضم إليها شرط آخر فإنما يرتبط الحكم بما وقع القول عليه من الشرط لقوله تعالى : { حتى إذا بلغوا النكاح } ; ولقوله تعالى : { حتى تنكح زوجا غيره } وكما بيناه .

فإن قيل : ليس هذا تجديد شرط زائد ، وإنما هو إعادة للكلام ، كما تقول : لا تعط زيدا شيئا حتى يدخل الدار ، فإذا دخل فأعطه ; وحمله على هذا أولى من وجهين :

أحدهما : أنه يحفظ حكم الغاية ويقرها على أصلها .

والثاني : أن الظاهر من لفظ الشرط أنه المذكور في الغاية .

فالجواب عنه من تسعة أوجه :

أحدها : أنا نقول : روى عطية ، عن ابن عباس أنه قال : " فإذا تطهرن بالماء " ، وهو قول مجاهد وعكرمة .

[ ص: 231 ] الثاني : أن تطهر لا يستعمل إلا فيما يكتسبه الإنسان وهو الاغتسال بالماء ، فأما انقطاع الدم فليس بمكتسب .

فإن قيل : بل يستعمل تفعل في غير الاكتساب ، كما يقال : تقطع الحبل ، وكما يقال في صفات الله سبحانه : تجبر وتكبر ، وليس في ذلك اكتساب ولا تكلف .

فالجواب عنه من أوجه : أحدها : أن الظاهر من اللغة ما قلناه ، وقوله : تقطع الحبل نادر ، فلا يقاس عليه حكم .

جواب آخر : هبكم سلمنا لكم أنه مستعمل ، ففي مسألتنا لا يستعمل ، فلا يقال تطهرت المرأة بمعنى انقطع دمها .

وإذا لم يجز استعماله في مسألتنا لم يقع استعماله في غيرها ، وهذه نكتة بديعة من المجاز ; وذلك أنه إنما يحمل اللفظ على الشيء إذا كان مستعملا على سبيل المجاز .

وأما مجاز استعمل في موضع آخر فلا يجوز أن يجعل طريقا إلى تأويل اللفظ فيما لم يستعمل فيه ; وفي ذلك الموضع إنما حملناه على ذلك للضرورة ، وهو أن الجمادات لا توصف بالاكتساب للأفعال وتكلفها ، ولذلك يستحيل في صفات الله تعالى وفي أفعاله التكلف ، فحمل اللفظ على ما وضع له من أجل الضرورة ، وهذا لا يوجب خروجه عن مقتضاه لغير ضرورة . وهذا جواب القاضي أبي الطيب الطبري .

جواب ثالث : قال تعالى في آخر الآية : { ويحب المتطهرين } فمدحهن وأثنى عليهن ، فلو كان المراد به انقطاع الدم ما كان فيه مدح ; لأنه من غير عملهن ، والباري سبحانه قد ذم على مثل هذا فقال : { ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } .

فإن قيل : هذا ابتداء كلام ، وليس براجع إلى ما تقدم ، بدليل قوله تعالى : { يحب التوابين } ; ولم يجر للتوبة ذكر . قلنا : سيأتي الجواب عنه إن شاء الله .

[ ص: 232 ] جواب رابع عن أصل السؤال : وهو قولهم : إنما حملنا الآية على هذا كما قد حفظنا موجب الغاية ومقتضاها ، فهذا لو اقتصر على الغاية ، فأما إذا قرن بها الشرط فذلك لا يلزم كما تقدم .

جواب خامس : وهو أنا نقول : إن كنا نحن قد تركنا موجب الغاية فقد حملتم أنتم اللفظ على التكرار ، فتركتم فائدة عوده ، وإذا أمكن حمل اللفظ على فائدة مجددة لم يحمل على التكرار في كلام الناس ، فكيف كلام العليم الحكيم ؟

جواب سادس : ليس حملكم قوله تعالى : { فإذا تطهرن } على قوله : { حتى يطهرن } بأولى من حملنا قوله تعالى : { حتى يطهرن } على قوله : { فإذا تطهرن } ; فوجب أن يقرن كل لفظ منه على مقتضاه ; هذا جواب أبي إسحاق الشيرازي .

جواب سابع : وذلك أنا إذا حملنا اللفظ على الطهارة بالماء كنا قد حفظنا الآية من التخصيص والأدلة من التناقض ; وإذا حملنا { تطهرن } على انقطاع الدم كنا قد خصصنا الآية وتحكمنا على معنى لفظها بما لا يقتضيه ولا يشهد له فرق فيه ، وتناقضنا في الأدلة ; والذي قلناه أولى . هذا جواب الإمام أبي بكر بن العربي .

وجواب ثامن : وهو أن المفسرين اتفقوا على أن المراد بالآية التطهر بالماء ; فالمعول عليه هنا جواب الطوسي وهو أضعفها ; وقد كانت المسألة عنده ضعيفة عند لقائنا له ، وقد حصلنا فيها القوة والنصرة بحمد الله تعالى من كل إمام وفي كل طريق .

جواب تاسع : قولهم : إن الظاهر من اللفظ المعاد في الشرط أن يكون بمعنى الغاية إنما ذلك إذا كان معادا بلفظ الأول ; أما إذا كان معادا بغير لفظه فلا ، وهو قد قال هاهنا : حتى " يطهرن " مخففا ، ثم قال في الذي بعده : " فإذا تطهرن " مشددا ، وعلى هذه القراءة كان كلامنا ، فوجب أن يكون غيره كما في آية التيمم .

[ ص: 233 ] فإن قيل وهو آخر أسئلة القوم ، وأعمدها : القراءتان كالآيتين ، فيجب أن يعمل بهما ، ونحن نحمل كل واحدة منهما على معنى فتحمل المشددة على ما إذا انقطع دمها للأقل ، فإنا لا نجوز وطأها حتى تغتسل ، وتحمل القراءة الأخرى على ما إذا انقطع دمها للأكثر ، فنجوز وطأها وإن لم تغتسل .

قلنا : قد جعلنا القراءتين حجة لنا ، وبينا وجه الدليل من كل واحدة منهما ; فإن قراءة التشديد تقتضي التطهر بالماء ، وقراءة التخفيف أيضا موجبة لذلك كما بيناه .

جواب ثان : وذلك أن إحدى القراءتين أوجبت انقطاع الدم ، والأخرى أوجبت الاغتسال بالماء ، كما أن القرآن اقتضى تحليل المطلقة ثلاثا للزوج الأول بالنكاح ، واقتضت السنة التحليل بالوطء ، فجمعنا بينهما .

فإن قيل : إذا اعتبرتم القراءتين هكذا كنتم قد حملتموها على فائدة واحدة ، وإذا اعتبرناها نحن كما قلنا حملناها على فائدتين متجددتين ، وهي اعتبار انقطاع الدم في قوله تعالى : { تطهرن } في أكثر الحيض ، واعتبار قوله : يطهر في الأقل .

قلنا : نحن وإن كنا قد حملناهما على معنى واحد فقد وجدنا لذلك مثالا في القرآن والسنة ، وحفظنا نطق الآية ولم نخصه ، وحفظنا الأدلة فلم ننقضها ; فكان تأويلنا يترتب على هذه الأصول الثلاثة ; فهو أولى من تأويل آخر يخرج عنها .

جواب آخر : وذلك أن ما ذكرتموه من الجمع يقتضي إباحة الوطء عند انقطاع الدم للأكثر ، وما قلنا يقتضي الحظر ; وإذا تعارض باعث الحظر وباعث الإباحة غلب باعث الحظر ، كما قال عثمان وعلي رضي الله عنهما في الجمع بين الأختين بملك اليمين : " أحلتهما آية وحرمتهما آية ، والتحريم أولى " .

فإن قيل : قوله تعالى : { ويسألونك عن المحيض } ثم قال : { فاعتزلوا النساء في المحيض } وهو زمان الحيض ، ومتى انقطع الدم لدون أكثر الحيض فالزمان باق ، فبقي النهي ، وهذا اعتراض أبي الحسن القدوري .

[ ص: 234 ] أجاب القاضي أبو الطيب الطبري فقال : [ المحيض ] هو الحيض بعينه ، بدليل أنه يقال : حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا ، فلا يكون لهم فيه حجة .

وأجاب عنه أبو إسحاق الشيرازي بأن قال : أراد بقوله : " المحيض " نفس الحيض ، بدليل قوله تعالى : { قل هو أذى } فإن قيل : بهذا نحتج فإنه إذا زال الدم زال الأذى ; فجاز الوطء ; فإن الحكم إذا ثبت لعلة زال بزوالها .

قلنا : هذا ينتقض بما إذا انقطع الدم لأقل الحيض ; فإن زالت العلة ولم يزل الحكم ; وذلك لفقه ; وهو أن الله تعالى بين علة التحريم ، وهو وجود الأذى ، ثم لم يربط زوال الحكم بزوال العلة حتى ضم إليه شرطا آخر ، وهو الغسل بالماء ; وذلك في الشرع كثير .

وأما طاوس ومجاهد فالكلام معهما سهل ; لأنه خلاف لظاهر القرآن على القولين جميعا ، وهما تفسير الطهر بالانقطاع أو الاغتسال ; ولذلك حملنا قوله تعالى : { فاطهروا } على الاغتسال في الجملة ; فأي فرق بين اللفظين أو المسألتين ؟ ويدل عليهما من طريق المعنى أن نقول : الحيض معنى يمنع الصوم ; فكان الطهر الوارد فيه محمولا على جميع الجسد أصله الجنابة .

وأما داود فإنا لم نراع خلافه ; لأنه إن كان يقول بخلق القرآن ويضلل أصحاب محمد في استعمالهم القياس كفرناه ; فإن راعينا إشكال سؤاله ، قلنا : هذا الكلام هو عكس الظاهر ; لأن الله تعالى قال : { حتى يطهرن } وهذا ضمير النساء ; فكيف يصح أن يسمع الله تعالى يقول : { حتى يطهرن } فيقول : إن وطأها جائز ، مع أن الطهارة عليها واجبة ; فيبيح الوطء قبل وجود غايته التي علق جواز الوطء عليها .

واعتبر ذلك بعطف قوله تعالى : { ولا تقربوهن } ; على قوله تعالى [ ص: 235 ] { فاعتزلوا النساء } تجده صحيحا ; فإن كان المراد اعتزلوا جملة المرأة كان قوله تعالى : { ولا تقربوهن } عاما فيها ، فيكون قوله تعالى : { حتى يطهرن } راجعا إلى جملتها ، وإن كان المراد بقوله تعالى : { فاعتزلوا } أسفلها من السرة إلى الركبة وجب عليه أن يقول : حتى يطهر ذلك الموضع كله ; ولا يصح له ; لأنه كان نظام الكلام لو أراد ذلك حتى يطهرنه ، وكذلك لو كان المراد فاعتزلوا الفرج سواء بسواء .

فإن قيل : قال الله تعالى : { قل هو أذى } فإذا زال الأذى جاز الوطء . قلنا : عنه جوابان :

أحدهما : أنه لو كان الاعتبار بزوال الأذى ما وجب غسل الفرج عندك ، لأن الأذى قد زال بالجفوف أو القصة البيضاء ، فغسل الفرج إذ ذاك يكون وقد زالت العلة ولم يبق له أثر ، فلا فائدة فيه ، فدل أن الاعتبار بحكم الحيض لا بوجوده .

الثاني : أنه علل بكونه أذى ، ثم منع القربان حتى تكون الطهارة من الأذى ، وهذا بين .

التالي السابق


الخدمات العلمية