صفحة جزء
الآية التاسعة عشرة قوله تعالى : { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين }

الآية فيها ثلاث مسائل : المسألة الأولى : ابتلى معناه اختبر ، وقد تقدم بيانه في كتاب المشكلين ، وبينا أن معناه أمر ليعلم من الامتثال أو التقصير مشاهدة ما علم غيبا ، وهو عالم الغيب والشهادة ، تختلف الأحوال على المعلومات ، وعلمه لا يختلف ، بل يتعلق بالكل تعلقا واحدا .

المسألة الثانية : قوله تعالى : { بكلمات } هي : جمع كلمة ، ويرجع تحقيقها إلى كلام الباري سبحانه ، لكنه تعالى عبر بها عن [ ص: 55 ] الوظائف التي كلفها إبراهيم عليه السلام ، ولما كان تكليفها بالكلام سميت به ، كما يسمى عيسى عليه السلام كلمة ; لأنه صدر عن الكلمة ، وهي : كن ، وتسمية الشيء بمقدمته أحد قسمي المجاز الذي بيناه في موضعه .

المسألة الثالثة : ما تلك الكلمات ؟ وقد اختلف العلماء فيها اختلافا كثيرا ، لبابه قولان : أحدهما : أنها شريعة الإسلام ، فأكملها إبراهيم عليه السلام .

قال ابن عباس : وما قام أحد بوظائف الدين مثله يعني والله أعلم قبله ; فقد قام بها بعده كثير من الأنبياء ، وخصوصا محمدا صلى الله عليه وسلم وعليهم .

الثاني : أنها الفطرة التي أوعز الله تعالى بها إليه ، ورتبها عليه ، وروت عائشة رضي الله عنها في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { عشر من الفطرة : قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم وحلق العانة ونتف الإبط وانتقاص الماء ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة } .

وروى عمار بن ياسر الحديث ، وقال : { المضمضة والاستنشاق } ، وزاد : { الختان } ، وذكر { الانتضاح } بدل { انتقاص الماء } .

وقد قال بعض علمائنا : إن معنى قوله هنا : { من الفطرة } يعني من السنة ، وأنا أقول : إنها من الملة ، وقد روي أن إبراهيم ابتلي بها فرضا ، وهي لنا سنة ، والذي [ ص: 56 ] يصح أن إبراهيم عليه السلام ابتلي بها تكليفا غير معين من الفرض أو الندب في جميعها أو انقسام الحال فيها .

وقد اتفقت الأمة على أنها من الملة ، واختلفوا في مراتبها ; فأما قص الشارب وإعفاء اللحية فمخالفة للأعاجم فإنهم يقصون لحاهم ، ويوفرون شواربهم ، أو يوفرونهما معا ، وذلك عكس الجمال والنظافة .

وأما السواك والمضمضة والاستنشاق فلتنظيف الفم من الطعام والقلح .

وأما قص الأظفار فلتنزيه الطعام عما يلتئم من الوسخ فيها والأقذار .

وأما غسل البراجم فلما يجتمع من الأوساخ في غضونها .

وحلق العانة ونتف الإبط تنظيفا عما يتلبد من الوسخ فيهما على شعرهما ومما يجتمع من الرمص فيهما ، والاستنجاء لتنظيف ذلك المحل وتطبيبه عن الأذى والأدواء .

وأما الختان فلنظافة القلفة عما يجتمع من أذى البول فيها ، ولم يختتن أحد قبل إبراهيم عليه السلام ; ثبت في الصحيح : { أنه اختتن بالقدوم وهو ابن مائة وعشرين سنة } . وقد اختلف العلماء فيه ، فرأى الشافعي أنه سنة لما قرن به من إخوته في هذا الحديث ، ورأى مالك أنه فرض ; لأنه تكشف له العورة ولا يباح الحرام إلا للواجب ، وقد مهدناه في مسائل الخلاف ، فلما أتمإبراهيم عليه السلام هذه الوظائف أثنى الله سبحانه عليه ، فقال : { وإبراهيم الذي وفى } .

[ ص: 57 ] سمعت بعض العلماء يقول : وإبراهيم الذي وفى بماله للضيفان ، وببدنه للنيران ، وبقلبه للرحمن .

التالي السابق


الخدمات العلمية