صفحة جزء
الآية الخامسة عشرة قوله تعالى : { وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا } فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى : لما أباح الله الفراق للأزواج والانتقال بالنكاح من امرأة إلى امرأة أخبر عن دينه القويم وصراطه المستقيم في توفية حقوقهن إليهن عند فراقهن ; فوطأة واحدة حلالا تقاوم مال الدنيا كله ، نهى الأزواج عن أن يعترضوهن في صدقاتهن ، إذ قد وجب ذلك لهن وصار مالا من أموالهن .

المسألة الثانية : قوله تعالى { وآتيتم إحداهن قنطارا } فيه جواز كثرة الصداق ، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يقللونه . وقد قال عمر بن الخطاب على المنبر : " ألا لا تغالوا في صدقات النساء ، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا وتقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ; ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا من بناته فوق اثنتي عشرة أوقية " فقامت إليه امرأة فقالت : يا عمر ، يعطينا الله وتحرمنا أنت ؟ أليس الله سبحانه يقول : { وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا } فقال عمر : " امرأة أصابت وأمير أخطأ " . وفي الرواية المشهورة عنه مثله إلى قوله اثنتي عشرة أوقية ، زاد : فإن الرجل يغلي بالمرأة في صداقها . فتكون حسرة في صدره فيقول : كلفت إليك عرق القربة . قال : [ ص: 470 ] فكنت غلاما مولودا لم أدر ما هذا ; قال : وأخرى يقولون لمن قتل في مغازيكم هذه : قتل فلان شهيدا أو مات فلان شهيدا ، ولعله أن يكون خرج وأفرد دون راحلته أو أعجزها بطلب النجاة ، ولكن قولوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من قتل في سبيل الله أو مات فله الجنة }

. وهذا لم يقله عمر على طريق التحريم ، وإنما أراد به الندب إلى التعليم ; وقد تناهى الناس في الصدقات حتى بلغ صداق امرأة ألف ألف ، وهذا قل أن يوجد من حلال .

وقد سئل عطاء عن رجل غالى في صداق امرأة أيرده السلطان ؟ قال : لا .

وقد روي عن عمر أنه خطب إلى علي أم كلثوم ابنته من فاطمة ، فقال : إنها صغيرة ، فقال عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { إن كل نسب وصهر منقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري } ، فلذلك رغبت في مثل هذا " . فقال علي : إني أرسلها حتى تنظر إلى صغرها ، فأرسلها فجاءت ، فقالت : إن أبي يقول : هل رضيت الحلة ؟ فقال عمر : قد رضيتها . فأنكحها علي فأصدقها أربعين ألف درهم . وقد روي أن { صداق النبي صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة كان أربعمائة دينار } ، وروي ثمانمائة دينار . وروي عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { خير النكاح أيسره } . { وقال لرجل : أترضى أن أزوجك فلانة ؟ قال : نعم . وقال للمرأة : أترضين أن أزوجك فلانا ؟ قالت : نعم . فزوجها فدخل عليها فلم يكتب لها صداقا ولا أعطاها شيئا ، وكان ممن شهد الحديبية وله سهم بخيبر ، فلما حضرته الوفاة قال : إن رسول الله [ ص: 471 ] صلى الله عليه وسلم زوجني فلانة ، فلم أعين لها صداقا ، ولم أعطها شيئا ، وإني أعطيها من صداقها سهمي بخيبر ، فأخذت سهمه ذلك فباعته بمائة ألف } . وزوج عروة البارقي بنت هانئ بن قبيصة على أربعين ألف درهم .

وعن غيلان بن جرير أن مطرفا تزوج امرأة على عشرة آلاف أوقية . وقد ثبت في الصحيح أن عبد الرحمن بن عوف تزوج امرأة بنواة من ذهب ، يقال هي خمسة دراهم . { وزوج النبي صلى الله عليه وسلم امرأة بخاتم من حديد } . وعن النبي صلى الله عليه وسلم { أن رجلا تزوج امرأة على نعلين ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : أرضيت عن مالك بهاتين النعلين ؟ قالت : نعم ، فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم } . وقال سعيد بن المسيب : لو أصدقها سوطا جاز . وقال إبراهيم : يستحب في الصداق الرطل من الذهب ، وكانوا يكرهون أن يكون سهم الحرائر مثل أجور البغايا : الدرهم والدرهمين ، ويحبون أن يكون عشرين درهما ، وشيء من هذا لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن غيره ، خلاف حديث عبد الرحمن بن عوف وخاتم الحديد ، وسيأتي تقدير المهر بعد هذا إن شاء الله تعالى .

المسألة الثالثة : قوله سبحانه : { قنطارا } قال علماؤنا : اختلف في القنطار على عشرة أقوال :

الأول : أنه اثنا عشر ألف درهم ; روي عن الحسن وابن عباس .

الثاني : أنه ألف ومائتا دينار ; قاله الحسن . وهو الأولى للصواب .

الثالث : أنه دية أحدكم ; روي عن ابن عباس . [ ص: 472 ]

الرابع : أنه ألف ومائتا أوقية ; روي عن أبي هريرة .

الخامس : أنه اثنا عشر ألف أوقية ; قاله أبو هريرة أيضا .

السادس : أنه ثمانون ألف درهم ; روي عن ابن عباس وابن المسيب .

السابع : أنه مائة رطل ; قاله قتادة .

الثامن : أنه سبعون ألف دينار ; قاله مجاهد .

التاسع : قال أبو سعيد الخدري : وهو ملء مسك ثور من ذهب .

العاشر : أنه المال الكثير من غير تحديد .

المسألة الرابعة : هذه الأقوال كلها تحكم في الأكثر ،

وقد روي بعضها عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح في هذا الباب شيء . والذي يصح في ذلك أنه المال الكثير الوزن ، هذا عرف عربي ، أما أن الناس لهم في القنطار عرف معتاد ، وهو أن القنطار أربعة أرباع ، والربع ثلاثون رطلا ، والرطل اثنتا عشرة أوقية ، والأوقية ستة عشر درهما ، والدرهم ست وثلاثون حبة ، وهي ستة دوانيق ، فما زاد أو نقص فبحسب اتفاقهم أو بحكم الولاة ، وقد ردوا الدرهم من سبعة ، والأصل أنه من ستة دوانيق ، وركبوا الدرهم الأكبر من ثمانية دوانيق على الدرهم الأصغر ، وهو أربعة دوانيق ، فحملت بنو أمية زيادة الأكبر على نقصان الأصغر ، فجعلوهما درهمين متساويين ، كل واحد منهما ستة دوانيق ، وجعلوا الدينار درهمين ، وذلك أربعة وعشرون قيراطا ، والقيراط ثلاث حبات . وقد روى شريك عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة عن { علي بن أبي طالب ; قال : زوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة على أربعمائة وثمانين درهما بوزن ستة } ; وهذا ضعيف ، إنما زوجه إياها في الصحيح على درعه الحطمية .

التالي السابق


الخدمات العلمية