صفحة جزء
المسألة التاسعة : قوله : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } : هذا عموم متفق عليه ممن نفاه وممن أثبته ; وذلك أن الله تعالى عدد المحرمات ، ثم قال : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } ; فاختلف الناس في المراد به على ثلاثة أقوال : الأول : المراد به من عدا القرابة من المحرمات المذكورات . الثاني : ما دون الأربع . الثالث : ما ملكت أيمانكم .

المسألة العاشرة : عجبا للأوائل كلفوا فهرفوا ; نظروا إلى السدي يقول : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } يعني ما دون الأربع ، وكم حرام بعد هذا ، وكأنه يشير إلى أن هذا العموم مخصوص فيما زاد على الأربع ، وكذلك قول عطاء : إنه فيما زاد على القرابة ، وبقي الأجانب غير مبينات ، ومثله قول قتادة ; بل أضعف ; لأنه رد التحليل إلى الإماء خاصة .

المسألة الحادية عشرة : اعلموا وفقكم الله تعالى أنا قد بينا أن الشرع لم يأت دفعة ، ولا وقع البيان في [ ص: 494 ] تفصيله في حالة واحدة ; وإنما جاء نجوما وشذر شذورا لمصلحة عامة وحكمة بالغة ; فلو شاء ربك لذكر المحرمات معدودات مشروحات في حالة واحدة ، ولكنه فرقها على السور والآيات ، وقسمها على الحالات والأوقات ; فاجتمعت العلماء وكملت في الدين ، كما كمل جميعه واستوثق وانتظم واتسق ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : { لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث } .

وقد بلغ العلماء الأسباب المبيحة للدم إلى عشرة يأتي ذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى . وعدد المحرمات في الشريعة عندنا حسبما رتبنا من الأدلة في هذا الكتاب وغيره من النساء أربعون امرأة ، منهن أربع وعشرون حرمن تحريما مؤبدا ، ومنهن ست عشرة تحريمهن لعارض . فأما الأربع والعشرون فهن : الأم ، البنت ، الأخت ، العمة ، الخالة ، بنت الأخ ، بنت الأخت ، فهؤلاء سبع . ومن الرضاع مثلهن بالسنة وإجماع الأمة ، كملن أربع عشرة ، وحليلة الأب ، وحليلة الابن ، وأم الزوجة ، وربيبة الزوجة ، المدخول بها . ومن الجمع ثلاث ; وهن الأختان بنص القرآن ، والمرأة وعمتها ، والمرأة وخالتها ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم وبيانه ، وكذلك الملاعنة سنة ، والمنكوحة في العدة بإجماع الصحابة في قضاء عمر بن الخطاب ، وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم وقد سقط هذا الوجه بموتهن .

وأما المحرمات لعارض فهن : الخامسة ، والمزوجة ، والمعتدة ، والمستبرأة ، والحامل ، والمطلقة ثلاثا ، والمشركة ، والأمة الكافرة ، والأمة المسلمة لواجد الطول ; وسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى ، وأمة الابن ، والمحرمة ، والمريضة ، ومن كان ذا محرم من زوجه [ ص: 495 ] اللاتي لا يجوز الجمع بينهن وبينها ، واليتيمة الصغيرة ، والمنكوحة عند النداء يوم الجمعة ; والمنكوحة عند الخطبة بعد التراكن . فأما السبع عشرة منهن فدليلهن ظاهر . وأما الملاعنة فمختلف فيها ; قال أبو حنيفة : ليس تحريمها مؤبدا فإنه إذا أكذب نفسه حل له رجعتها ، وبناء على أن فرقة اللعان طلاق ; لأجل أنها متعلقة بلفظ الزوج كالطلاق ، مفتقرة إلى الحاكم كطلاق العنين ، ولأنه سبب أوجبه اللعان ، فزال بالتكذيب ; فنفي بلعانه ويعود بتكذيبه . والنكتة العظمى لهم أنهم قالوا : أوجب حرمة لأوجد محرمية كالرضاع .

وبالجملة فالمعاني لهم ، والنظائر والأصول معهم ، وليس لنا نحن إلا حديث ابن عمر في صحيح مسلم وغيره قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { حسابكما على الله ، أحدكما كاذب . لا سبيل لك عليها . قال : يا رسول الله ، مالي ؟ قال : لا مال لك . إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها ، وإن كنت كذبت عليها فذلك أبعد لك منها } . وأما المنكوحة في العدة فهو النظر الصحيح ; لأنه استعجل محرما قبل حله فحرمه أبدا ; كالقاتل لا يمكن من الميراث ، والمستبرأة معتدة ، العلة واحدة ، والمحل واحد ، والسبب واحد ; فلما اتحدا اتحد الحكم والحامل أوقع ، والدليل فيها الجمع ، والمطلقة ثلاثا قرآنية ، وكذلك المشركة ، والأمتان تأتيان مبينتين إن شاء الله . وأما أمة الابن فكل محرم في كتاب الله مما تقدم بيانه فإن لفظه ومعناه عام في النكاح وملك اليمين ، فدخل فيه تحريم ملك اليمين ، وأمة الابن من حلائل الابن لفظا ، أو معنى ولفظا ، أو معنى من غير لفظ ، والكل في اقتضاء التحريم درجات ، وله مقتضيات ; وكذلك تحريم الجمع دخل فيه الجمع بملك اليمين لما بيناه .

[ ص: 496 ] وأما المحرمة فقال أبو حنيفة والبخاري وجماعة : نكاح المحرم جائز بالعقد دون الوطء . وقال مالك والشافعي : لا يجوز ، ولا عمدة لهما فيه إلا حديث نبيه بن وهب ، خرجه مالك : { لا ينكح المحرم ، ولا ينكح } . وضعف البخاري نبيه بن وهب ، وتعديل مالك وعلمه به أقوى من علم كل بخاري وحجازي ، فلا يلتفت لغيره . وأما حديث البخاري في { ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها محرما } ، فعجبا للبخاري يدخله مع عظيم الخلاف فيه ويترك أمثاله ، ولا يعارض حديث نبيه المتفق عليه بحديث ميمونة المختلف فيه . والمسألة عظيمة قد بيناها في مسائل الخلاف .

وأما نكاح المريض فمن مسائل الخلاف ; ومنعه مالك وجوزه أبو حنيفة والشافعي ; وقد بيناه في موضعه ; وكذلك اليتيمة الصغيرة لا تزوج بحال عندنا وعند الشافعي ، وقال أبو حنيفة : يزوجها وليها ، ولها الخيار إذا بلغت ; فأفسد ما بنى وجعل حلا مترقبا ، وهي طيولية قد ذكرناها في التلخيص وغيره . فهذه جمل من المحرمات ثبتت في الشريعة بأدلتها وخصت من قوله : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } . وتركب على هذا ما إذا زنى بامرأة ، هل يثبت زناه حرمة في فروعها وأصولها ؟ عن مالك في ذلك روايتان ودع من روى ، وما روي . أقام مالك عمره كله يقرأ عليه الموطأ ويقرأه لم يختلف قوله فيه : إن الحرام لا يحرم الحلال ، ولا شك في ذلك ، وقد بيناها في مسائل الخلاف ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية