صفحة جزء
الآية السادسة والخمسون قوله تعالى : { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } . هذا خبر ، والخبر من الله سبحانه لا يجوز أن يقع بخلاف مخبره ، ونحن نرى الكافرين يتسلطون على المؤمنين في بلادهم وأبدانهم وأموالهم وأهليهم ، فقال العلماء في ذلك قولين : أحدهما : و لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا في الحجة ، فلله الحجة البالغة .

الثاني : و لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا في الحجة يوم القيامة . قال القاضي : أما حمله على نفي وجود الحجة من الكافر على المؤمن فذلك ضعيف ; لأن وجود الحجة للكافر محال ، فلا يتصرف فيه الجعل بنفي ولا إثبات .

وأما نفي وجود الحجة يوم القيامة فضعيف ; لعدم فائدة الخبر فيه ; وإن أوهم صدر الكلام معناه ; لقوله : { فالله يحكم بينهم يوم القيامة } فأخر الحكم إلى يوم القيامة ، وجعل الأمر في الدنيا دولة تغلب الكفار تارة وتغلب أخرى بما رأى من الحكمة وسبق من الكلمة ، ثم قال : { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } . فتوهم من توهم أن آخر الكلام يرجع إلى أوله ، وذلك يسقط فائدته . وإنما معناه ثلاثة أوجه :

الأول : و لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا يمحو به دولة المؤمنين ، ويذهب آثارهم ، ويستبيح بيضتهم ، كما جاء في الحديث : ودعوت ربي ألا يسلط عليهم عدوا من غيرهم يستبيح بيضتهم فأعطانيها . [ ص: 641 ]

الثاني : أن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا منه إلا أن تتواصوا بالباطل ، ولا تتناهوا عن المنكر ، وتتقاعدوا عن التوبة ; فيكون تسليط العدو من قبلكم ; وهذا نفيس جدا .

الثالث : أن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا بالشرع ; فإن وجد ذلك فبخلاف الشرع ، ونزع بهذا علماؤنا في الاحتجاج على أن الكافر لا يملك العبد المسلم ; وبه قال أشهب والشافعي ; لأن الله سبحانه نفى السبيل للكافر عليه ، والملك بالشراء سبيل فلا يشرع ولا ينعقد بذلك . وقال ابن القاسم عن مالك ، وهو قول أبي حنيفة : إن معنى { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } في دوام الملك ; لأنا نجد ابتداءه يكون له عليه ، وذلك بالإرث ، وصورته أن يسلم عبد كافر في يدي كافر فيلزم القضاء عليه ببيعه ، فقبل الحكم ببيعه مات ، فيرث العبد المسلم وارث الكافر ، فهذه سبيل قد ثبتت ابتداء ، ويحكم عليه ببيعه . ورأى مالك في رواية أشهب والشافعي أن الحكم بملك الميراث ثابت قهرا لا قصد فيه .

فإن قيل : ملك الشراء ثبت بقصد اليد ، فقد أراد الكافر تملكه باختياره . قلنا : فإن الحكم بعقد بيعه وثبوت ملكه ; فقد تحقق فيه قصده وجعل له سبيل اليد ، وهي مسألة طويلة عظيمة ، وقد حققناها في مسائل الخلاف ، وحكمنا بالحق فيها في كتاب " الإنصاف لتكملة الإشراف " ، فلينظر هنا لك .

التالي السابق


الخدمات العلمية