صفحة جزء
المسألة الثالثة : قوله تعالى : { إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات } إلى : { المحسنين } اختلف فيها على ثلاثة أقوال : الأول : اتقوا في اتباع الأمر واجتناب النهي ، واتقوا في الثبات على ذلك ، واتقوا في لزوم النوافل ; وهو الإحسان إلى آخر العمر .

الثاني : اتقوا قبل التحريم في غيرها من المحرمات ، ثم اتقوا بعد تحريمها شربها ، ثم اتقوا في الذي بقي من أعمارهم ، فاجتنبوا العمل المحرم .

الثالث : اتقوا الشرك ، وآمنوا ، ثم اتقوا الحرام ، ثم اتقوا ترك الإحسان ، فيعبدون الله ، وإن لم يروه كأنهم يرونه . وقد صرفت فيها أقوال على قدر وظائف الشريعة يكثر تعدادها ، وأشبهها بالقرآن والسنة ما رواه الدارقطني عن ابن عباس : أن الشراب كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : بالأيدي والنعال وبالعصي حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا في خلافة أبي بكر أكثر منهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أبو بكر يجلدهم أربعين حتى توفي ، فكان عمر من بعده يجلدهم كذلك أربعين ، ثم أتي برجل من المهاجرين الأولين وقد شرب ، فأمر به أن يجلد ، فقال : أتجلدني ، بيني وبينك كتاب الله " . فقال عمر : " أفي كتاب الله تجد ألا أجلدك ؟ " فقال : إن الله تعالى يقول : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الآية ; فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ثم اتقوا وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا ، شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها . فقال عمر : " ألا تردون عليه ما يقول " ؟ فقال ابن عباس : إن هذه الآيات أنزلت [ ص: 168 ] عذرا لمن صبر وحجة على الناس ; لأن الله تعالى يقول : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر } الآية ، ثم قرأ حتى أنفذ الآية الأخرى ; فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإن الله تعالى قد نهاه أن يشرب الخمر . فقال عمر : " صدقت ، ماذا ترون " ؟ فقال علي : " إنه إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، وعلى المفتري جلد ثمانين " . [ فأمر به عمر فجلد ثمانين جلدة ] .

وروى البخاري عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة قال : استعمل عمر قدامة بن مظعون على البحرين ، وقد كان يشهد بدرا ، وهو خال ابن عمر وحفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ; زاد البرقاني : فقدم الجارود من البحرين ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن قدامة بن مظعون قد شرب مسكرا ، وإني إذا رأيت حدا من حدود الله تعالى حق علي أن أرفعه إليك . فقال له عمر : " من يشهد لي على ما تقول ؟ " فقال : أبو هريرة . فدعا عمر أبا هريرة فقال : " علام تشهد يا أبا هريرة " ؟ فقال : " لم أره حين شرب ، وقد رأيته سكران يقيء " . فقال عمر : " لقد تنطعت في الشهادة " . ثم كتب عمر إلى قدامة وهو بالبحرين يأمره بالقدوم عليه . فلما قدم قدامة والجارود بالمدينة كلم الجارود عمر ، فقال له : أقم على هذا كتاب الله فقال عمر للجارود : " أشهيد أنت أم خصم " ؟ فقال الجارود : أنا شهيد . قال : " قد كنت أديت الشهادة " . فسكت الجارود ، ثم قال : لتعلمن أني أنشدك الله . فقال عمر : " أما والله لتملكن لسانك أو لأسوءنك " . فقال الجارود : أما والله ما ذلك بالحق أن يشرب ابن عمك وتسوءني : فتوعده عمر . فقال أبو هريرة وهو جالس : " يا أمير المؤمنين ، إن كنت تشك في شهادتنا فسل بنت الوليد امرأة ابن مظعون " . فأرسل عمر إلى هند ينشدها بالله ، فأقامت هند على زوجها قدامة الشهادة . فقال عمر : " يا قدامة ; إني جالدك " . فقال قدامة : والله لو شربت كما تقولون ما كان لك أن تجلدني يا عمر . قال : " لم يا قدامة ؟ " قال : لأن [ ص: 169 ] الله سبحانه يقول : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الآية إلى : { المحسنين } . فقال عمر : " إنك أخطأت التأويل يا قدامة ; إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله " . ثم أقبل عمر على القوم فقال : " ما ترون في جلد قدامة ؟ " فقال القوم : لا نرى أن تجلده ما دام وجعا ، فسكت عمر عن جلده أياما ، ثم أصبح يوما وقد عزم على جلده ، فقال لأصحابه : " ما ترون في جلد قدامة ؟ " فقالوا : لا نرى أن تجلده ما دام وجعا . فقال عمر : " إنه والله لأن يلقى الله وهو تحت السوط أحب إلي من أن ألقى الله وهي في عنقي ، والله لأجلدنه ، ائتوني بسوط " . فجاء مولاه أسلم بسوط رقيق صغير ، فأخذه عمر فمسحه بيده ، ثم قال لأسلم : " قد أخذتك بإقرار أهلك ، ائتوني بسوط غير هذا " . قال : فجاءه أسلم بسوط تام ، فأمر عمر بقدامة فجلد ، فغاضب قدامة عمر وهجره ، فحجا وقدامة مهاجر لعمر ، حتى قفلوا من حجهم ، ونزل عمر بالسقيا وقام بها ; فلما استيقظ عمر قال : " عجلوا علي بقدامة ، انطلقوا فأتوني به ، فوالله إني لأرى في النوم أنه جاءني آت فقال لي : سالم قدامة فإنه أخوك " . فلما جاءوا قدامة أبى أن يأتيه ; فأمر عمر بقدامة أن يجر إليه جرا حتى كلمه عمر واستغفر له ، فكان أول صلحهما .

فهذا يدلك على تأويل الآية ، وما ذكر فيه عن ابن عباس في حديث الدارقطني وعمر في حديث البرقاني ، وهو صحيح . وبسطه أنه لو كان من شرب الخمر واتقى الله في غيره لا يحد على الخمر ما حد أحد ، فكان هذا من أفسد تأويل ، وقد خفي على قدامة ، وعرفه من وفقه الله له كعمر وابن عباس ، والله أعلم .


وإن حراما لا أرى الدهر باكيا على شجوه إلا بكيت على عمر



التالي السابق


الخدمات العلمية