صفحة جزء
باب ما يقول وما يصنع إذا رأى المطر وما يقول إذا كثر جدا

1357 - ( عن عائشة قالت { : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى المطر قال : اللهم صيبا نافعا } رواه أحمد والبخاري والنسائي )

1358 - ( وعن أنس قال { : أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر ، قال : فحسر ثوبه حتى أصابه من المطر ، فقلنا : لم صنعت هذا ؟ قال : لأنه حديث عهد بربه } رواه أحمد ومسلم وأبو داود ) .


قوله : ( صيبا ) بالنصب بفعل مقدر : أي اجعله صيبا ونافعا صفة للصيب ليخرج الضار منه ، والصيب : المطر ، قاله ابن عباس وإليه ذهب الجمهور وقال بعضهم : الصيب : السحاب ، ولعله أطلق ذلك مجازا ، وهو من صاب المطر يصوب إذا نزل فأصاب الأرض والحديث فيه استحباب الدعاء عند نزول المطر ، وقد أخرج مسلم من حديث عائشة قالت : { كان إذا كان يوم ريح عرف ذلك في وجهه فيقول إذا رأى المطر : رحمة } وأخرجه أبو داود والنسائي عنها بلفظ : { كان إذا رأى ناشئا من أفق السماء ترك العمل ، فإن كشف حمد الله فإن مطر قال : اللهم صيبا نافعا } قوله : ( حسر ) أي كشف بعض ثوبه قوله : ( ; لأنه حديث عهد بربه ) قال العلماء : أي بتكوين ربه إياه .

قال النووي : ومعناه أن المطر رحمة ، وهو قريب العهد بخلق الله تعالى لها فيتبرك بها وفي الحديث دليل أنه يستحب عند أول المطر أن يكشف بدنه ليناله المطر لذلك .

1359 - ( وعن شريك بن أبي نمر عن أنس { أن رجلا دخل المسجد يوم جمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب ، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما ثم قال : يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغثنا ، قال : فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال : اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا قال أنس : ولا والله ما [ ص: 18 ] نرى في السماء من سحاب ولا قزعة وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار ، قال : فطلعت من وراءه سحابة مثل الترس : فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت ، قال : فلا والله ما رأينا الشمس سبتا قال : ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يخطب . فاستقبله قائما فقال : يا رسول الله هلكت الأموال ، وانقطعت السبل فادع الله يمسكها عنا ; قال : فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال : اللهم حوالينا ولا علينا ، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر ; قال : فانقلعت وخرجنا نمشي في الشمس ، قال شريك : فسألت أنسا أهو الرجل الأول ؟ قال : لا أدري } متفق عليه ) .

قوله : ( أن رجلا ) في مسند أحمد ما يدل على أن هذا المبهم كعب بن مرة . وفي البيهقي من طريق مرسلة ما يدل على أنه خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري ، وزعم بعضهم أنه أبو سفيان بن حرب قال في الفتح : وفيه نظر ; لأنه جاء في واقعة أخرى وقال الحافظ : لم أقف على تسميته كما تقدم قوله : ( يوم جمعة ) فيه دليل على أنه إذا اتفق وقوع الاستسقاء يوم جمعة اندرجت خطبة الاستسقاء وصلاتها في الجمعة .

وقد بوب لذلك البخاري وذكر حديث الباب قوله : ( من باب كان نحو دار القضاء ) فسر بعضهم دار القضاء بأنها دار الإمامة قال في الفتح : وليس كذلك ، وإنما هي دار عمر بن الخطاب وسميت دار القضاء ; لأنها بيعت في قضاء دينه ، فكان يقال لها : دار قضاء دين عمر ، ثم طال ذلك فقيل لها : دار القضاء ، ذكره الزبير بن بكار بسنده إلى ابن عمر وقد قيل في تفسيرها غير ذلك .

قوله : ( ثم قال : يا رسول الله ) هذا يدل على أن السائل كان مسلما ، وبه يرد على من قال : إنه أبو سفيان ; لأنه حين سؤاله لذلك لم يكن قد أسلم قوله : ( هلكت الأموال ) المراد بالأموال هنا : الماشية لا الصامت . قوله : ( وانقطعت السبل ) المراد بذلك أن الإبل ضعفت لقلة القوت عن السفر لكونها لا تجد في طريقها من الكلإ ما يقيم أودها وقيل : المراد نفاد ما عند الناس من الطعام أو قلته فلا يجدون ما يجلبونه ويحملونه إلى الأسواق .

قوله : ( فادع الله يغثنا ) هكذا في رواية البخاري بالجزم ، وفي رواية له " يغيثنا " بالرفع ، وفي رواية له : " أن يغيثنا " فالجزم ظاهر والرفع على الاستئناف : أي فهو يغيثنا قال في الفتح : وجائز أن يكون من الغوث أو من الغيث ، والمعروف في كلام العرب غثنا ; لأنه من الغوث وقال ابن القطاع : غاث الله عباده غيثا وغياثا : سقاهم المطر ، وأغاثهم : أجاب دعاءهم ، ويقال : غاث وأغاث بمعنى قال ابن دريد : الأصل غاثه الله يغوثه غوثا واستعمل أغاثه ، ومن فتح أوله فمن [ ص: 19 ] الغيث ويحتمل أن يكون معنى أغثنا أعطنا غوثا وغيثا . قوله : ( فرفع يديه ) فيه استحباب رفع اليد عند دعاء الاستسقاء ، وقد تقدم الكلام عليه . قوله : ( من سحاب ) أي مجتمع .

قوله : ( ولا قزعة ) بفتح القاف والزاي بعدها مهملة : أي سحاب متفرق وقال ابن سيده : القزع : قطع من السحاب رقاق قال أبو عبيدة : وأكثر ما يجيء في الخريف . قوله : ( وما بيننا وبين سلع ) بفتح المهملة وسكون اللام : جبل معروف بالمدينة ، وقد حكي أنه بفتح اللام .

قوله : ( من بيت ولا دار ) أي يحجبنا من رؤيته وأشار بذلك إلى أن السحاب كان مفقودا لا مستترا ببيت ولا غيره . قوله : ( فطلعت ) أي ظهرت من وراء سلع . قوله : ( مثل الترس ) أي مستديرة ولم يرد أنها مثله في القدر وفي رواية " فنشأت سحابة مثل رجل الطائر " . قوله : ( فلما توسطت السماء انتشرت ) هذا يشعر بأنها استمرت مستديرة حتى انتهت إلى الأفق وانبسطت حينئذ ، وكأن فائدته تعميم الأرض بالمطر قوله : ( ما رأينا الشمس سبتا ) هذا كناية عن استمرار الغيم الماطر وهو كذلك في الغالب وإلا فقد يستمر المطر والشمس بادية ، وقد تحتجب الشمس بغير مطر وأصرح من ذلك ما وقع في رواية أخرى للبخاري بلفظ : " فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد ومن بعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى " والمراد بقوله سبتا : أي من السبت إلى السبت .

قاله ابن المنير والطبري قال : وفيه تجوز ; لأن السبت لم يكن مبتدأ ولا الثاني منتهى ، وإنما عبر أنس بذلك ; لأنه كان من الأنصار ، وقد كانوا جاوروا اليهود فأخذوا بكثير من اصطلاحهم ، وإنما سموا الأسبوع سبتا ; لأنه أعظم الأيام عند اليهود كما أن الجمعة عند المسلمين كذلك وفي تعبيره عن الأسبوع بالسبت مجاز مرسل والعلاقة الجزئية والكلية وقال صاحب النهاية : أراد قطعة من الزمان ، وكذا قال النووي ووقع في رواية " ستا " أي ستة أيام ، ووقع في رواية " فمطرنا من جمعة إلى جمعة " قوله : ( ثم دخل رجل من ذلك الباب ) ظاهره أنه غير الأول ; لأن النكرة إذا تكررت دلت على التعدد ، وقد قال شريك في آخر هذا الحديث : " سألت أنسا هو الرجل الأول ؟ فقال : لا أدري " .

وهذا يقتضي أنه لم يجزم بالتغاير . وفي رواية البخاري عن أنس " فقام ذلك الرجل أو غيره " وفي رواية له عنه : " فأتى الرجل فقال : يا رسول الله " ومثلها لأبي عوانة ، وهذا يقتضي الجزم بكونه واحدا ، فلعل أنسا تذكره بعد أن نسيه ويؤيد ذلك ما أخرجه البيهقي عنه بلفظ : " فقال الرجل " يعني الذي سأله يستسقي قوله : ( هلكت الأموال وانقطعت السبل ) أي بسبب غير السبب الأول ، والمراد أن كثرة الماء انقطع المرعى بسببها فهلكت المواشي من عدم المرعى أو لعدم ما يمكنها من المطر ويدل على ذلك ما عند النسائي بلفظ " من كثرة الماء " .

وأما انقطاع السبل فلتعذر سلوك الطريق [ ص: 20 ] من كثرة الماء وفي رواية عند ابن خزيمة " واحتبس الركبان " وفي رواية البخاري تهدمت البيوت " وفي رواية له " هدم البناء وغرق المال " . قوله : ( يمسكها ) يجوز ضم الكاف وسكونها ، والضمير يعود إلى الأمطار أو إلى السحاب أو إلى السماء . قوله : ( اللهم حوالينا ولا علينا ) تقدم الكلام عليه . قوله : ( على الإكام ) بكسر الهمزة . وقد تفتح جمع أكمة ، مفتوحة الحروف جميعا : قيل : هي التراب المجتمع وقيل : هي الحجر الواحد ، وبه قال الخليل وقال الخطابي : هي الهضبة الضخمة وقيل : الجبل الصغير وقيل : ما ارتفع من الأرض .

قوله : ( والظراب ) تقدم تفسيره وضبطه . قوله : ( وبطون الأودية ) المراد بها ما يتحصل فيه الماء لينتفع به . قوله : ( فانقلعت ) أي السماء أو السحابة الماطرة ، والمعنى أنها أمسكت عن المطر على المدينة وفي الحديث فوائد : منها جواز المكالمة من الخطيب حال الخطبة وتكرار الدعاء وإدخال الاستسقاء في خطبة الجمعة والدعاء به على المنبر وترك تحويل الرداء والاستقبال والاجتزاء بصلاة الجمعة عن صلاة الاستسقاء كما تقدم .

وفيه علم من أعلام النبوة في إجابة الله تعالى دعاء نبيه وامتثال السحاب أمره كما وقع في كثير من الروايات وغير ذلك من الفوائد .

التالي السابق


الخدمات العلمية