صفحة جزء
باب الاستنجاء بالماء

114 - ( عن أنس بن مالك قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة فيستنجي بالماء } . متفق عليه ) .


قوله : ( إداوة ) هي بكسر الهمزة : إناء صغير من جلد . قوله : ( وعنزة ) هي بفتح النون عصا أقصر من الرمح لها سنان ، وقيل : هي الحربة القصيرة . قوله : ( فيستنجي ) قال الأصيلي متعقبا على البخاري استدلاله بهذه الزيادة على الاستنجاء أنها من قول أبي الوليد أحد الرواة عن شعبة لا من قول أنس ، قال : وقد رواه سليمان بن حرب عن شعبة فلم يذكرها ، وقد رده الحافظ بأنها قد ثبتت للإسماعيلي من طريق عمرو بن مرزوق عن شعبة بلفظ : { فانطلقت أنا وغلام من الأنصار معنا إداوة فيها ماء يستنجي منها النبي صلى الله عليه وسلم } ، وللبخاري من طريق روح بن القاسم عن عطاء بن أبي ميمونة بلفظ : { إذا تبرز أتيته بماء فتغسل به } .

ولمسلم من طريق خالد الحذاء عن عطاء عن أنس بلفظ : { فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد استنجى بالماء } قال : وقد بان بهذه الروايات الرد على الأصيلي ، وكذا فيه الرد على من زعم أن قوله : يستنجي بالماء مدرج من قول عطاء الراوي عن أنس ، كما حكاه ابن التين عن أبي عبد الملك ، فإن رواية خالد الحذاء السابقة تدل على أنه قول أنس . والحديث يدل على ثبوت الاستنجاء بالماء ، وقد أنكره مالك وأنكر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم استنجى بالماء . قد روى ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة عن حذيفة بن [ ص: 130 ] اليمان أنه سئل عن الاستنجاء بالماء فقال : إذا لا يزال في يدي نتن . وعن نافع أن ابن عمر كان لا يستنجي بالماء . وعن ابن الزبير قال : ما كنا نفعله .

وذكر ابن دقيق العيد أن سعيد بن المسيب سئل عن الاستنجاء بالماء فقال : إنما ذلك وضوء النساء . قال : وعن غيره من السلف ما يشعر بذلك . والسنة دلت على الاستنجاء بالماء في هذا الحديث وغيره ، فهي أولى بالاتباع ، قال : ولعلسعيدا رحمه اللهفهم من أحد غلوا في هذا الباب بحيث يمنع الاستنجاء بالأحجار ، فقصد في مقابلته أن يذكر هذا اللفظ لإزالة ذلك الغلو ، وبالغ بإيراده إياه على هذه الصيغة .

وقد ذهب بعض من أصحاب مالك إلى أن الاستجمار بالحجارة إنما هو عند عدم الماء ، وإذا ذهب إليه بعض الفقهاء فلا يبعد أن يقع لغيرهم ممن في زمان سعيد رحمه اللهانتهى . وقد اختلف العلماء في الاكتفاء بالأحجار وعدم تعين الماء ، فذهبت الشافعية والحنفية إلى عدم وجوب الماء وأن الأحجار تكفي إلا إذا تعدت النجاسة الشرج أي حلقة الدبر ، وقال بقولهم سعد بن أبي وقاص وابن الزبير وابن المسيب وعطاء ، واستدلوا بحديث { إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليستطب بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه } كما تقدم ، وبنحوه من أحاديث الاستطابة . وذهبت العترة والحسن البصري وابن أبي ليلى والحسن بن صالح وأبو علي الجبائي إلى عدم الاجتزاء بالحجارة للصلاة ، ووجوب الماء وتعينه ، واحتجوا لذلك بقوله تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } وأجيب بأن الآية في الوضوء ، ولا شك أن الماء متعين له ولا يجزئ التيمم إلا عند عدمه ، وأما محل النزاع فلا دلالة في الآية عليه .

قالوا : حديث الباب ونحوه مصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم استنجى بالماء . قلنا : النزاع في تعينه وعدم الاجتزاء بغيره ، ومجرد فعل النبي صلى الله عليه وسلم له لا يدل على المطلوب وإلا لزمكم القول بتعين الأحجار ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله وهو عكس مطلوبكم . قالوا : أخرج أحمد والترمذي وصححه ، والنسائي من حديث عائشة أنها قالت للنساء : { مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء فإني أستحييهم ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله } ، قلنا : صرحت بالمستند وهو مجرد فعل النبي له ، ولم ينقل عنه الأمر به ولا حصر الاستطابة عليه . قالوا : حديث قباء وفيه الثناء عليهم لأنهم كانوا يستنجون بالماء كما سيأتي . قلنا : هو حجة عليكم لا لكم ، لأن تخصيص أهل قباء بالثناء يدل على أن غيرهم بخلافهم ولو كان واجبا لشاركهم غيرهم . سلمنا فمجرد الثناء لا يدل على الوجوب المدعى وغاية ما فيه الأولوية لأصالة الماء في التطهير ، وزيادة تأثيره في إذهاب أثر النجاسة ، على أن حديث قباء فيه كلام سيأتي في هذا الباب .

قال المهدي في البحر رادا على حجة أهل القول الأول ما لفظه : قلنا : مسلم . فأين سقوط الماء انتهى . ونقول له ومتى ثبت وجوب الماء حتى نطلب دليل سقوطه ، ثم إن السنة باعترافك قد وردت بالاستطابة بالأحجار ، [ ص: 131 ] وإنها مجزية فأين دليل عدم إجزائها . وعن معاذة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : { مرن أزواجكن أن يغسلوا عنهم أثر الغائط والبول فإنا نستحي منهم ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله } رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه . الحديث يرد على من أنكر الاستنجاء بالماء منه صلى الله عليه وسلم ، والكلام عليه قد تقدم في الذي قبله .

115 - ( وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { نزلت هذه الآية في أهل قباء : { فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين } قال : كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية } . رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ) . الحديث قال الترمذي : غريب ، وأخرجه البزار في مسنده من حديث ابن عباس بلفظ : { نزلت هذه الآية في أهل قباء { فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين } فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا نتبع الحجارة الماء } قال البزار : لا نعلم أحدا رواه عن الزهري إلا محمد بن عبد العزيز ، ولا عنه إلا ابنه .

قال الحافظ : ومحمد بن عبد العزيز ضعفه أبو حاتم فقال : ليس له ولا لأخويه عمران وعبد الله حديث مستقيم ، وعبد الله بن شبيب الذي رواه البزار من طريقه ضعيف أيضا . وقد روى الحاكم هذا الحديث ، وليس فيه إلا ذكر الاستنجاء بالماء فحسب ، وهكذا صرح النووي وابن الرفعة بأنه ليس في الحديث أنهم كانوا يجمعون بين الأحجار والماء ولا يوجد هذا في كتب الحديث .

وكذا قال المحب الطبري . ورواية . البزار واردة عليهم وإن كانت ضعيفة . وحديث الباب قال الحافظ : هو بسند ضعيف . وروى أحمد وابن خزيمة والطبراني والحاكم عن عويم بن ساعدة نحوه ، وأخرجه الحاكم من طريق مجاهد قال : { لما نزلت الآية بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى عويم بن ساعدة فقال : ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم به ؟ قال : ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل دبره } فقال صلى الله عليه وسلم : " هو هذا " ورواه ابن ماجه والحاكم من حديث أبي سفيان طلحة بن نافع قال : أخبرني أبو أيوب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وإسناده ضعيف . ورواه أحمد وابن أبي شيبة وابن قانع من حديث محمد بن عبد الله بن سلام .

وحكى أبو نعيم في معرفة الصحابة الخلاف فيه على شهر بن حوشب . ورواه الطبراني من حديث أبي أمامة ، وذكره الشافعي في الأم بغير إسناد .

والحديث يدل على ثبوت الاستنجاء بالماء ، والثناء على فاعله لما فيه من كمال التطهير ، وقد تقدم الكلام عليه في أول الباب .

التالي السابق


الخدمات العلمية