صفحة جزء
باب ما جاء في البكاء على الميت وبيان المكروه منه

1501 - ( عن جابر قال : { أصيب أبي يوم أحد فجعلت أبكي ، فجعلوا ينهوني ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينهاني ، فجعلت عمتي فاطمة تبكي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : تبكين أو لا تبكين ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه } متفق عليه ) .

1502 - ( وعن ابن عباس قال : { ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكت النساء فجعل عمر يضربهن بسوطه ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال : مهلا يا عمر ، ثم قال : إياكن ونعيق الشيطان ثم قال : إنه مهما كان من العين والقلب فمن الله عز وجل ومن الرحمة ، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان } رواه أحمد )


حديث ابن عباس فيه علي بن زيد وفيه كلام ، وهو ثقة وقد أشار إلى الحديث الحافظ في التلخيص وسكت عنه قوله : ( فجعلت أبكي ) في لفظ للبخاري " فجعلت أكشف الثوب عن وجهه أبكي " وفي لفظ آخر له : { فذهبت أريد أن أكشف عنه فنهاني قومي ، ثم ذهبت أكشف عنه فنهاني قومي } قوله : ( ينهوني ) في رواية للبخاري " وينهوني " قوله : ( ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينهاني ) فيه دليل على جواز البكاء الذي لا صوت معه ، وسيأتي تحقيق ذلك قوله : ( فجعلت عمتي فاطمة تبكي ) قال في الفتح : هي شقيقة أبيه عبد الله بن عمرو .

وفي لفظ للبخاري : { فسمع صوت صائحة فقال : من هذه ؟ فقالوا : بنت عمرو أو أخت عمرو } والشك من سفيان ، والصواب بنت عمرو ووقع في الإكليل للحاكم تسميتها هند بنت عمرو ، فلعل لها اسمين أو أحدهما اسمها والآخر لقبها أو كانتا جميعا حاضرتين قوله : ( تبكين أو لا تبكين ) قيل : هذا شك من الراوي هل استفهم أو نهى ، والظاهر أنه ليس بشك ، وإنما المراد به التخيير . والمعنى أنه مكرم بصنيع الملائكة وتزاحمهم عليه لصعودهم بروحه ، ومن كان بهذه المثابة تظله الملائكة بأجنحتها لا ينبغي أن يبكى عليه بل يفرح له بما صار إليه وفيه إذن بالبكاء المجرد مع الإرشاد إلى أولوية الترك لمن كان بهذه المنزلة قوله : { إياكن ونعيق الشيطان } [ ص: 120 ] هو النوح والصراخ المنهي عنه بالأحاديث الآتية

قوله : ( إنه مهما كان من العين والقلب . . . إلخ ) فيه دليل على جواز البكاء المجرد عما لا يجوز من فعل اليد كشق الجيب واللطم ، ومن فعل اللسان كالصراخ ودعوى الويل والثبور ونحو ذلك

1503 - ( وعن ابن عمر قال : { اشتكى سعد بن عبادة شكوى له ، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن مسعود ، فلما دخل عليه وجده في غشية ، فقال : قد قضى فقالوا : لا يا رسول الله ، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى القوم بكاءه بكوا ; قال : ألا تسمعون أن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا ، وأشار إلى لسانه أو يرحم ) } .

1504 - ( وعن أسامة بن زيد قال : { كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبيا لها في الموت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ وله ما أعطى ، وكل شيء عنده بأجل مسمى ، فمرها فلتصبر ولتحتسب ، فعاد الرسول فقال : إنها أقسمت لتأتينها ، قال : فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقام معه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل ، قال : فانطلقت معهم ، فرفع إليه الصبي ونفسه تقعقع كأنها في شنة ففاضت عيناه ، فقال سعد : ما هذا يا رسول الله ؟ قال : هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده ، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء } متفق عليهما ) قوله : ( اشتكى ) أي ضعف وشكوى بغير تنوين قوله : ( فلما دخل عليه ) زاد مسلم { فاستأخر قومه من حوله حتى دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين معه }

قوله : ( وجده في غشية ) قال النووي : بفتح الغين وكسر الشين المعجمتين وتشديد الياء قال القاضي : هكذا رواية الأكثرين قال : وضبطه بعضهم بإسكان الشين وتخفيف الياء وفي رواية البخاري " في غاشية " وكله صحيح ، وفيه قولان : أحدهما من يغشاه من أهله والثاني ما يغشاه من كرب الموت .

قوله : ( فلما رأى القوم بكاءه بكوا ) هذا فيه إشعار بأن هذه القصة كانت بعد قصة إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم ; لأن عبد الرحمن بن عوف كان معهم في هذه ، ولم يعترض بمثل ما اعترض به هناك ، فدل على أنه تقرر عنده العلم بأن مجرد البكاء بدمع العين من غير زيادة على ذلك لا يضر قوله : ( ألا تسمعون ) لا يحتاج إلى مفعول ; لأنه جعل كالفعل اللازم : أي لا توجدون السماع وفيه إشارة إلى أنه فهم من [ ص: 121 ] بعضهم الإنكار فبين لهم الفرق بين الحالتين .

قوله : ( إن الله ) بكسر الهمزة ; لأنه ابتداء كلام وفيه دليل على جواز البكاء والحزن اللذين لا قدرة للمصاب على دفعهما قوله : ( ولكن يعذب بهذا ) أي إن قال سوءا أو يرحم إن قال خيرا ويحتمل أن يكون معنى قوله ( أو يرحم ) : أي إن لم ينفذ الوعيد قوله : ( إحدى بناته ) هي زينب كما وقع عند ابن أبي شيبة

قوله : ( أن صبيا لها ) قيل : هو علي بن أبي العاص بن الربيع وهو من زينب وفيه نظر ; لأن الزبير بن بكار وغيره من أهل العلم بالأخبار ذكروا أن عليا المذكور عاش حتى ناهز الحلم ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أردفه على راحلته يوم فتح مكة ، وهذا لا يقال في حقه صبيا عرفا وإن جاز من حيث اللغة وفي الأنساب للبلاذري أن عبد الله بن عثمان بن عفان من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات وضعه النبي صلى الله عليه وسلم في حجره وقال : { إنما يرحم الله من عباده الرحماء } وفي مسند البزار من حديث أبي هريرة قال : { ثقل ابن لفاطمة ، فبعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم } فذكر نحو حديث الباب " وفيه مراجعة سعد بن عبادة في البكاء ، فعلى هذا الابن المذكور محسن بن علي .

وقد اتفق أهل العلم بالأخبار أنه مات صغيرا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فهذا أولى إن ثبت أن القصة كانت لصبي ولم يثبت أن المرسلة زينب ، لكن الصواب في حديث الباب أن المرسلة زينب كما قال الحافظ وأن الولد صبية كما في مسند أحمد ، وكذا أخرجه أبو سعيد بن الأعرابي في معجمه

ويدل على ذلك ما عند أبي داود بلفظ : " إن ابنتي أو ابني " وفي رواية " إن ابنتي قد حضرت " قوله : ( إن لله ما أخذ ) قدم ذكر الأخذ على الإعطاء وإن كان متأخرا في الواقع ما يقتضيه المقام ، والمعنى أن الذي أراد أن يأخذ هو الذي كان أعطاه ، فإن أخذه أخذ ما هو له فلا ينبغي الجزع ; لأن مستودع الأمانة لا ينبغي له أن يجزع إذا استعيدت منه .

ويحتمل أن يكون المراد بالإعطاء إعطاء الحياة لمن بقي بعد الموت أو ثوابهم على المصيبة أو ما هو أعم من ذلك ، و " ما " في الموضعين مصدرية ، ويجوز أن تكون موصولة والعائد محذوف قوله : ( وكل شيء عنده بأجل مسمى ) أي كل من الأخذ والإعطاء أو من الأنفس أو ما هو أعم من ذلك وهي جملة ابتدائية معطوفة على الجمل المذكورة ويجوز في كل النصب عطفا على اسم إن فينسحب التأكيد عليه ، ومعنى العندية العلم فهو من مجاز الملازمة ، والأجل يطلق على الحد الأخير وعلى مطلق العمر

قوله : ( مسمى ) أي معلوم أو مقدر أو نحو ذلك قوله : ( ولتحتسب ) أي تنوي بصبرها طلب الثواب من ربها قوله : ( ونفسه تقعقع ) بفتح التاء والقافين ، والقعقعة : حكاية صوت الشن اليابس إذا حرك قوله : ( كأنها في شنة ) بفتح الشين وتشديد النون : القربة الخلقة اليابسة ، شبه البدن بالجلد اليابس وحركة الروح فيه بما يطرح في الجلد من حصاة ونحوها قوله : ( ففاضت عيناه ) [ ص: 122 ] أي النبي صلى الله عليه وسلم .

وقد صرح به في رواية شعبة قوله : ( هذه رحمة ) أي الدمعة أثر رحمة وفيه دليل على جواز ذلك ، وإنما المنهي عنه الجزع وعدم الصبر . قوله : { وإنما يرحم الله من عباده الرحماء } الرحماء : جمع رحيم وهو من صيغ المبالغة ، ومقتضاه أن رحمة الله تعالى تختص بمن اتصف بالرحمة وتحقق بها ، بخلاف من فيه أدنى رحمة ، لكن ثبت عند أبي داود . وغيره من حديث عبد الله بن عمرو { الراحمون يرحمهم الرحمن } والراحمون جمع راحم فيدخل فيه من فيه أدنى رحمة

و " من " في قوله " من عباده " بيانية ، وهي حال من المفعول قدمت ليكون أوقع

1505 - ( وعن عائشة : { أن سعد بن معاذ لما مات حضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ، قالت : فوالذي نفسي بيده ، إني لأعرف بكاء أبي بكر من بكاء عمر وأنا في حجرتي } رواه أحمد ) .

1506 - ( وعن ابن عمر : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم من أحد سمع نساء من عبد الأشهل يبكين على هلكاهن ، فقال : لكن حمزة لا بواكي له ، فجئن نساء الأنصار فبكين على حمزة عنده ، فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا ويحهن أنتن هاهنا تبكين حتى الآن ، مروهن فليرجعن ولا يبكين على هالك بعد اليوم } رواه أحمد وابن ماجه ) .

1507 - ( وعن جابر بن عتيك أن { رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يعود عبد الله بن ثابت فوجده قد غلب ، فصاح به فلم يجبه ، فاسترجع وقال : غلبنا عليك يا أبا الربيع ، فصاح النسوة وبكين ، فجعل ابن عتيك يسكنهن ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعهن فإذا وجب فلا تبكين باكية قالوا : وما الوجوب يا رسول الله ؟ قال : الموت } رواه أبو داود والنسائي ) حديث عائشة وابن عمر أشار إليها الحافظ في التلخيص وسكت عنهما ، ورجال إسناد حديث ابن عمر ثقات إلا أسامة بن زيد الليثي ففيه يقال وقد أخرج له مسلم وحديث جابر بن عتيك أخرجه أيضا أحمد وابن حبان والحاكم .

قوله : ( وأبو بكر وعمر ) . . . إلخ ، محل الحجة من هذا الحديث تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لهما على البكاء وعدم إنكاره عليهما مع [ ص: 123 ] أنه قد حصل منهما زيادة على مجرد دمع العين ، ولهذا فرقت عائشة وهي في حجرتها بين بكاء أبي بكر وعمر ، ولعل الواقع منهما مما لا يمكن دفعه ولا يقدر على كتمه ، ولم يبلغ إلى الحد المنهي عنه .

قوله : ( ولكن حمزة لا بواكي له ) هذه المقالة منه صلى الله عليه وسلم مع عدم إنكاره للبكاء الواقع من نساء عبد الأشهل هلكاهن يدل على جواز مجرد البكاء وقوله : { ولا يبكين على هالك بعد اليوم } ظاهره المنع من مطلق البكاء ، وكذلك قوله في حديث جابر بن عتيك : " فإذا وجب فلا تبكين باكية " وذلك يعارض ما في الأحاديث المذكورة في الباب من الإذن بمطلق البكاء بعد الموت ، ويعارض أيضا سائر الأحاديث الواردة في الإذن بمطلق البكاء مما لم يذكره المصنف كحديث عائشة في قصة عثمان بن مظعون عند أبي داود والترمذي .

وحديث أبي هريرة عند النسائي وابن ماجه وابن حبان بلفظ : { مر على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة فانتهرهن عمر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : دعهن يا ابن الخطاب فإن النفس مصابة والعين دامعة والعهد قريب }

وحديث بريدة عند مسلم في زيارته صلى الله عليه وسلم قبر أمه وسيأتي وحديث أنس عند الشيخين : { أن النبي صلى الله عليه وسلم ذرفت عيناه لما جعل ابنه إبراهيم في حجره وهو يجود بنفسه ، فقيل له في ذلك ، فقال : إنها رحمة ، ثم قال : العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا . } وهو عند الترمذي من حديث جابر بلفظ : { إن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف ، فانطلق به إلى ابنه إبراهيم فوجده يجود بنفسه ، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره فبكى ، فقال له عبد الرحمن : أتبكي ، أولم تكن نهيت عن البكاء ؟ فقال : لا ولكن نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين : صوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ، ورنة شيطان } الحديث قال الترمذي : حسن فيجمع بين الأحاديث بحمل النهي عن البكاء مطلقا ومقيدا ببعد الموت على البكاء المفضي إلى ما لا يجوز من النوح والصراخ وغير ذلك ، والإذن به على مجرد البكاء الذي هو دمع العين وما لا يمكن دفعه من الصوت .

وقد أشار إلى هذا الجمع قوله : " ولكن نهيت عن صوتين . . . إلخ " قوله في حديث ابن عباس المتقدم " إنه مهما كان من العين والقلب فمن الله عز وجل ومن الرحمة " وقوله في حديث ابن عمر السابق " إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب " فيكون معنى قوله " لا يبكين على هالك بعد اليوم " قوله " فإذا وجب لا تبكين باكية " النهي عن البكاء الذي يصحبه شيء مما حرمه الشارع وقيل : إنه يجمع بأن الإذن بالبكاء قبل الموت والنهي عنه بعده ، ويرد بحديث أبي هريرة المذكور قريبا ، وبحديث عائشة الذي ذكره المصنف ، وبحديث بريدة في قصة زيارته صلى الله عليه وسلم لأمه

وبحديث جابر وابن عباس المذكورين في أول الباب وقيل : إنه يجمع بحمل أحاديث النهي عن البكاء بعد الموت على الكراهة ، وقد تمسك بذلك الشافعي فحكي عنه كراهة [ ص: 124 ] البكاء بعد الموت ، والجمع الذي ذكرناه أولا هو الراجح . قوله : ( قالوا وما الوجوب ) . . . إلخ في رواية لأحمد أن بعض رواة الحديث قالوا : الوجوب إذا دخل قبره ، والتفسير المرفوع أصح وأرجح

التالي السابق


الخدمات العلمية