صفحة جزء
باب الحث عليها والتشديد في منعها

1530 - ( عن ابن عباس { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال : إنك تأتي قوما من أهل الكتاب ، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ; فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ; فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم ، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب } رواه الجماعة )


[ ص: 139 ] قوله : ( لما بعث معاذا ) كان بعثه سنة عشر قبل حج النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكره البخاري في أواخر المغازي وقيل : كان ذلك في سنة تسع عند منصرفه من تبوك ، رواه الواقدي بإسناده إلى كعب بن مالك وقد أخرجه ابن سعد في الطبقات عنه ، ثم حكى ابن سعد أنه كان في ربيع الآخر سنة عشر وقيل : بعثه عام الفتح سنة ثمان واتفقوا على أنه لم يزل باليمن إلى أن قدم في عهد أبي بكر ثم توجه إلى الشام فمات بها واختلف هل كان واليا أو قاضيا ؟ فجزم ابن عبد البر بالثاني والغساني بالأول

قوله : ( تأتي قوما من أهل الكتاب ) هذا كالتوطئة للتوصية لتستجمع همته عليها لكون أهل الكتاب أهل علم في الجملة فلا يكون في مخاطبتهم كمخاطبته الجهال من عبدة الأوثان قوله : ( فادعهم . . . إلخ ) إنما وقعت البداءة بالشهادتين ; لأنهما أصل الدين الذي لا يصح بشيء غيرهما ، فمن كان منهم غير موحد فالمطالبة متوجهة إليه بكل واحدة من الشهادتين على التعيين ، ومن كان موحدا فالمطالبة له بالجمع بينهما قوله : ( فإن هم أطاعوك ) . . . إلخ استدل به على أن الكفار غير مخاطبين بالفروع حيث دعوا أولا إلى الإيمان فقط ، ثم دعوا إلى العمل ، ورتب ذلك عليه بالفاء وتعقب بأن مفهوم الشرط مختلف في الاحتجاج به ، وبأن الترتيب في الدعوة لا يستلزم الترتيب في الوجوب ، كما أن الصلاة والزكاة لا ترتيب بينهما في الوجوب ، وقد قدمت إحداهما على الأخرى في هذا الحديث ورتبت الأخرى عليها بالفاء قوله : ( خمس صلوات ) استدل به على أن الوتر ليس بفرض ، وكذلك تحية المسجد وصلاة العيد ، وقد تقدم البحث عن ذلك قوله : ( فإن هم أطاعوك لذلك ) قال ابن دقيق العيد : يحتمل وجهين : أحدهما أن يكون المراد إن هم أطاعوك بالإقرار بوجوبها عليهم والتزامهم بها ، والثاني أن يكون المراد الطاعة بالفعل وقد رجح الأول بأن المذكور هو الإخبار بالفريضة فتعود الإشارة إليها

ويرجح الثاني أنهم لو أخبروا بالفريضة فبادروا إلى الامتثال بالفعل لكفى ، ولم يشترط التلفظ ، بخلاف الشهادتين فالشرط عدم الإنكار ، والإذعان للوجوب وقال الحافظ : المراد القدر المشترك بين الأمرين ، فمن امتثل بالإقرار أو بالفعل كفاه ، أو بهما فأولى وقد وقع في رواية الفضل بن العلاء بعد ذكر الصلاة " فإذا صلوا " وبعد ذكر الزكاة " فإذا أقروا بذلك فخذ منهم " قوله : " صدقة " زاد البخاري في رواية " في أموالهم " وفي رواية له أخرى " افترض عليهم زكاة في أموالهم " قوله : ( تؤخذ من أغنيائهم ) استدل به على أن الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفها إما بنفسه وإما بنائبه ، فمن امتنع منهم أخذت منه قهرا

قوله : ( على فقرائهم ) استدل به لقول مالك وغيره : إنه يكفي إخراج الزكاة في صنف واحد فيه بحث كما قال ابن دقيق العيد : لاحتمال أن يكون ذكر الفقراء لكونهم الغالب في ذلك : [ ص: 140 ] وللمطابقة بينهم وبين الأغنياء قال الخطابي : وقد يستدل به من لا يرى على المديون زكاة إذا لم يفضل من الدين الذي عليه قدر نصاب ; لأنه ليس بغني إذ إخراج ماله مستحق لغرمائه قوله : ( فإياك وكرائم أموالهم ) كرائم منصوب بفعل مضمر لا يجوز إظهاره ، والكرائم جمع كريمة : أي نفيسة .

وفيه دليل على أنه لا يجوز للمصدق أخذ خيار المال ; لأن الزكاة لمواساة الفقراء فلا يناسب ذلك الإجحاف بالمالك إلا برضاه قوله : ( واتق دعوة المظلوم ) فيه تنبيه على المنع من جميع أنواع الظلم والنكتة في ذكره عقب المنع من أخذ كرائم الأموال الإشارة إلى أن أخذها ظلم

قوله : ( حجاب ) أي ليس لها صارف يصرفها ولا مانع ، والمراد أنها مقبولة وإن كان عاصيا كما جاء في حديث أبي هريرة عند أحمد مرفوعا { دعوة المظلوم مستجابة ، وإن كان فاجرا ففجره على نفسه } قال الحافظ : وإسناده حسن ; وليس المراد أن لله تعالى حجابا يحجبه عن الناس قال المصنف رحمه اللهبعد أن ساق الحديث : وقد احتج به على وجوب صرف الزكاة في بلدها ، واشتراط إسلام الفقير ، وأنها تجب في مال الطفل الغني عملا بعمومه كما تصرف فيه مع الفقر انتهى .

وفيه أيضا دليل على بعث السعادة وتوصية الإمام عامله فيما يحتاج إليه من الأحكام وقبول خبر الواحد ووجوب العمل به وإيجاب الزكاة في مال المجنون للعموم أيضا ، وأن من ملك نصابا لا يعطى من الزكاة من حيث إنه جعل أن المأخوذ منه غني وقابله بالفقير ، وأن المال إذا تلف قبل التمكن من الأداء سقطت الزكاة لإضافة الصدقة إلى المال

وقد استشكل عدم ذكر الصوم والحج في الحديث مع أن بعث معاذ كان آخر الأمر كما تقدم وأجاب ابن الصلاح بأن ذلك تقصير من بعض الرواة وتعقب بأنه يفضي إلى ارتفاع الوثوق بكثير من الأحاديث النبوية لاحتمال الزيادة والنقصان . وأجاب الكرماني بأن اهتمام الشارع بالصلاة والزكاة أكثر ولهذا كررا في القرآن ، فمن ثم لم يذكر الصوم والحج في هذا الحديث مع أنهما من أركان الإسلام وقيل : إذا كان الكلام في بيان الأركان لم يخل الشارع منه بشيء كحديث {بني الإسلام على خمس } فإذا كان الدعاء إلى الإسلام اكتفى بالأركان الثلاثة : الشهادة والصلاة والزكاة ، ولو كان بعد وجود فرض الحج والصوم لقوله تعالى: { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة } ، مع أن نزولها بعد فرض الصوم والحج

1531 - ( وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا أحمي عليه في نار جهنم فيجعل صفائح فتكوى بها جنباه وجبهته حتى [ ص: 141 ] يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، ثم يرى سبيله ، إما إلى الجنة ، وإما إلى النار ، وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها ، إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت تستن عليه ، كلما مضى عليه أخراها ردت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، ثم يرى سبيله ، إما إلى الجنة ، وإما إلى النار ، وما من صاحب غنم لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت فتطؤه بأظلافها ، وتنطحه بقرونها ، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ، كلما مضى عليه أخراها ردت عليه أولاها ، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ، ثم يرى سبيله ، إما إلى الجنة ، وإما إلى النار قالوا : فالخيل يا رسول الله ؟ قال : الخيل في نواصيها أو قال : الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ; الخيل ثلاثة : هي لرجل أجر ، ولرجل ستر ، ولرجل وزر فأما التي هي له أجر ، فالرجل يتخذها في سبيل الله ويعدها له فلا تغيب شيئا في بطونها إلا كتب الله له أجرا ، ولو رعاها في مرج فما أكلت من شيء إلا كتب الله له بها أجرا ، ولو سقاها من نهر كان له بكل قطرة تغيبها في بطونها أجر حتى ذكر الأجر في أبوالها وأرواثها ، ولو استنت شرفا أو شرفين كتب له بكل خطوة تخطوها أجر . وأما الذي هي له ستر فالرجل يتخذها تكرما وتجملا ولا ينسى حق ظهورها وبطونها في عسرها ويسرها وأما التي هي عليه وزر ، فالذي يتخذها أشرا وبطرا وبذخا ورياء الناس ، فذلك الذي هي عليه وزر قالوا : فالحمر يا رسول الله ؟ قال : ما أنزل الله علي فيها شيئا إلا هذه الآية الجامعة الفاذة : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } } رواه أحمد ومسلم )

قوله : ( ما من صاحب كنز ) قال الإمام أبو جعفر الطبراني : الكنز كل شيء مجموع بعضه على بعض سواء كان في بطن الأرض أو في ظهرها قال صاحب العين وغيره : وكان مخزونا قال القاضي عياض : اختلف السلف في المراد بالكنز المذكور في القرآن وفي الحديث ، فقال أكثرهم : هو كل مال وجبت فيه صدقة الزكاة فلم تؤد فأما مال أخرجت زكاته فليس بكنز وقيل : الكنز هو المذكور عن أهل اللغة ، ولكن الآية منسوخة بوجوب الزكاة وقيل : المراد بالآية أهل الكتاب المذكورون قبل ذلك وقيل : كل ما زاد على أربعة آلاف فهو كنز وإن أديت زكاته وقيل : هو ما فضل عن الحاجة ، ولعل هذا كان في أول الإسلام وضيق الحال

واتفق أئمة الفتوى على القول الأول لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا تؤدى زكاته " وفي صحيح مسلم { من كان عنده مال لم يؤد زكاته مثل [ ص: 142 ] له شجاعا أقرع وفي آخره فيقول أنا كنزك } .

ولفظ لمسلم بدل قوله : " ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته " " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منهما حقهما " قوله : ( ثم يرى سبيله ) قال النووي : هو بضم الياء التحتية من يرى وفتحها وبرفع لام سبيله ونصبها . قوله : ( إلا بطح لها بقاع قرقر ) القاع : المستوي الواسع في سوى الأرض ، قال الهروي : وجمعه قيعة وقيعان مثل جار وجيرة وجيران والقرقر بقافين مفتوحتين وراءين أولاهما ساكنة : المستوي أيضا من الأرض الواسع والبطح قال جماعة من أهل اللغة : معناه الإلقاء على الوجه قال القاضي عياض : وقد جاء في رواية للبخاري " تخبط وجهه بأخفافها " قال : وهذا يقتضي أنه ليس من شرط البطح أن يكون على الوجه ، وإنما هو في اللغة بمعنى البسط والمد فقد يكون على وجهه وقد يكون على ظهره ، ومنه سميت بطحاء مكة لانبساطها

قوله : ( كأوفر ما كانت ) يعني لا يفقد منها شيء وفي رواية لمسلم " أعظم ما كانت " قوله : ( تستن عليه ) أي تجري عليه وهو بفتح الفوقية وسكون السين المهملة بعدها فوقية مفتوحة ثم نون مشددة قوله : ( كلما مضى عليه أخراها ردت عليه أولاها ) وقع في رواية لمسلم " كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها " قال القاضي عياض : وهو تغيير وتصحيف ، وصوابه الرواية الأخرى ، يعني المذكورة في الكتاب قوله : ( ليس فيها عقصاء . . . إلخ ) قال أهل اللغة : العقصاء : ملتوية القرنين ، وهي بفتح العين المهملة وسكون القاف بعدها صاد مهملة ثم ألف ممدودة والجلحاء بجيم مفتوحة ثم لام ساكنة ثم حاء مهملة : التي لا قرن لها قوله : ( تنطحه ) بكسر الطاء وفتحها لغتان حكاهما الجوهري وغيره والكسر أفصح وهو المعروف في الرواية قوله : { الخيل في نواصيها الخير } جاء في تفسير الحديث الآخر في الصحيح بأنه الأجر والمغنم وفيه دليل على بقاء الإسلام والجهاد إلى يوم القيامة ، والمراد قبيل القيامة بيسير وهو وقت إتيان الريح الطيبة من قبل اليمن التي تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة كما ثبت في الصحيح قوله : ( فأما التي هي له أجر ) هكذا في أكثر نسخ مسلم ، وفي بعضها " فأما الذي هي له أجر " وهي أوضح وأظهر

قوله : ( في مرج ) بميم مفتوحة وراء ساكنة ثم جيم وهو الموضع الذي ترعى فيه الدواب . قوله : ( ولو استنت شرفا أو شرفين ) أي جرت ، والشرف بفتح الشين المعجمة والراء : وهو العالي من الأرض وقيل : المراد طلقا أو طلقين قوله : ( أشرا وبطرا وبذخا ) قال أهل اللغة : الأشر بفتح الهمزة والشين المعجمة : المرح واللجاج والبطر بفتح الباء الموحدة من أسفل والطاء المهملة ثم راء : هو الطغيان عند الحق والبذخ بفتح الباء الموحدة والذال المعجمة بعدها خاء معجمة : هو بمعنى الأشر والبطر قوله : ( إلا هذه الآية الفاذة الجامعة ) المراد [ ص: 143 ] بالفاذة : القليلة النظير ، وهي بالذال المعجمة المشددة والجامعة : العامة المتناولة لكل خير ومعروف ومعنى ذلك أنه لم ينزل علي فيها نص بعينها ، ولكن نزلت هذه الآية العامة قد يحتج بهذا من قال : لا يجوز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم ويجاب بأنه لم يظهر له فيها شيء ، ومحل ذلك الأصول ، والحديث يدل على وجوب الزكاة في الذهب والفضة والإبل والغنم

وقد زاد مسلم في هذا الحديث " ولا صاحب بقر . . . إلخ " قال النووي : وهو أصح حديث ورد في زكاة البقر وقد أستدل به أبو حنيفة على وجوب الزكاة في الخيل لما وقع في رواية لمسلم { عند ذكر الخيل ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها } وتأول الجمهور هذا الحديث على أن المراد يجاهد بها وقيل : المراد بالحق في رقابها : الإحسان إليها والقيام بعلفها وسائر مؤنها ، والمراد بظهورها إطراق فحلها إذا طلبت عاريته وقيل : المراد حق الله مما يكسبه من مال العدو على ظهورها وهو خمس الغنيمة ، وسيأتي الكلام على هذه الأطراف التي دل الحديث عليها

التالي السابق


الخدمات العلمية