صفحة جزء
أبواب ما يبطل الصوم وما يكره وما يستحب

باب ما جاء في الحجامة

1642 - ( عن رافع بن خديج قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أفطر الحاجم والمحجوم } رواه أحمد والترمذي . ولأحمد وأبي داود وابن ماجه من حديث ثوبان وحديث شداد بن أوس مثله . ولأحمد وابن ماجه من حديث أبي هريرة مثله . ولأحمد من حديث عائشة وحديث أسامة بن زيد مثله ) .

1643 - ( وعن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على رجل يحتجم في رمضان فقال : { أفطر الحاجم والمحجوم } ) .

1644 - ( وعن الحسن عن معقل بن سنان الأشجعي أنه قال : مر علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أحتجم في ثمان عشرة ليلة خلت من شهر رمضان فقال : { أفطر الحاجم والمحجوم } رواهما أحمد ، وهما دليل على أن من فعل ما يفطر جاهلا يفسد صومه [ ص: 238 ] بخلاف الناسي . قال أحمد : أصح حديث في هذا الباب حديث رافع بن خديج ، وقال ابن المديني : أصح شيء في هذا الباب حديث ثوبان وشداد بن أوس )


حديث رافع أخرجه ابن حبان والحاكم وصححاه . قال الترمذي : ذكر عن أحمد أنه قال : هذا أصح شيء في هذا الباب ، وبالغ أبو حاتم فقال : وعندي من طريق رافع باطل . ونقل عن يحيى بن معين أنه قال : هو أضعف أحاديث الباب . وحديث ثوبان أخرجه أيضا النسائي وابن حبان والحاكم .

وروي عن أحمد أنه قال : هو أصح ما روي في الباب . وكذا قال الترمذي عن البخاري وصححه البخاري تبعا لعلي بن المديني ، نقله الترمذي في العلل . وحديث شداد بن أوس أخرجه أيضا النسائي وابن خزيمة وابن حبان وصححاه ، وصححه أيضا أحمد والبخاري وعلي بن المديني . وحديث أبي هريرة أخرجه أيضا النسائي من طريق عبيد الله بن بشير عن الأعمش عن أبي صالح عنه ، وله طريق أخرى عن شقيق بن ثور عن أبيه عنه . وحديث عائشة أخرجه أيضا النسائي ، وفيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف . وحديث أسامة أخرجه أيضا النسائي وفيه اختلاف . وحديث ثوبان الآخر أخرجه أيضا النسائي وهو أحد ألفاظ حديثه المشار إليه أولا . وحديث معقل بن سنان في إسناده عطاء بن السائب . وقد اختلط ورواه الطبراني في الكبير ، وأخرجه أيضا النسائي وذكر الاختلاف فيه .

وفي الباب عن أبي موسى عند النسائي والحاكم وصححه علي بن المديني . وقال النسائي : رفعه خطأ والموقوف أخرجه ابن أبي شيبة وعلقه البخاري ووصله أيضا بدون ذكر : { أفطر الحاجم والمحجوم له } وعن بلال عند النسائي . وعن علي عند النسائي أيضا . قال علي بن المديني : اختلف فيه على الحسن . وعن أنس وجابر وابن عمر وسعد بن أبي وقاص وأبي يزيد الأنصاري وابن مسعود عند ابن عدي في الكامل والبزار وغيرهما . وقد استدل بأحاديث الباب القائلون بفطر الحاجم والمحجوم له ويجب عليهما القضاء وهم : علي وعطاء والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن خزيمة وابن المنذر وأبو الوليد النيسابوري وابن حبان ، حكاه عن هؤلاء الجماعة صاحب الفتح ، وصرح بأنهم يقولون : إنه يفطر الحاجم والمحجوم له ، وهو يرد ما قاله المهدي في البحر ، وتبعه المغربي في شرح بلوغ المرام وصاحب ضوء النهار من أنه لم يقل أحد من العلماء بأن الحاجم يفطر . ومن القائلين بأنه يفطر الحاجم والمحجوم له أبو هريرة وعائشة . قال الزعفراني : إن الشافعي علق القول به على صحة الحديث ، وبذلك قال الداودي من المالكية . وذهب الجمهور إلى أن الحجامة لا تفسد الصوم ، وحكاه في البحر عن جماعة من الصحابة منهم علي وابنه الحسن وأنس وأبو سعيد الخدري [ ص: 239 ] وزيد بن أرقم ، وعن العترة وأكثر الفقهاء والحسن البصري وعطاء والصادق . قال الحازمي : ممن روينا عنه ذلك من الصحابة سعد بن أبي وقاص والحسن بن علي وابن مسعود وابن عباس وزيد بن أرقم وابن عمر وأنس وعائشة وأم سلمة ، ومن التابعين والعلماء الشعبي وعروة والقاسم بن محمد وعطاء بن يسار وزيد بن أسلم وعكرمة وأبو العالية وإبراهيم وسفيان ومالك والشافعي وأصحابه إلا ابن المنذر .

وأجابوا عن الأحاديث المذكورة بأنها منسوخة بالأحاديث التي ستأتي . وأجيب عن ذلك بما سنذكره في شرحها ، وأجابوا أيضا بما أخرجه الطحاوي وعثمان الدارمي والبيهقي في المعرفة عن ثوبان أنه صلى الله عليه وسلم إنما قال { أفطر الحاجم والمحجوم } لأنهما كانا يغتابان ، ورد بأن في إسناده يزيد بن ربيعة وهو متروك ، وحكم ابن المديني بأنه حديث باطل . قال ابن خزيمة : جاء بعضهم بأعجوبة ، فزعم أنه صلى الله عليه وسلم إنما قال : { أفطر الحاجم والمحجوم } لأنهما كانا يغتابان ، فإذا قيل له : فالغيبة تفطر الصائم ؟ قال : لا ، فعلى هذا لا يخرج من مخالفة الحديث بلا شبهة . وأجابوا أيضا بأن المراد بقوله : { أفطر الحاجم والمحجوم } أنهما سيفطران باعتبار ما يئول الأمر إليه كقوله تعالى : { إني أراني أعصر خمرا } ، قال الحافظ : ولا يخفى تكلف هذا التأويل . وقال البغوي في شرح السنة : معنى " أفطر الحاجم والمحجوم " أي تعرضا للإفطار ، أما الحاجم فلأنه لا يأمن وصول شيء من الدم إلى جوفه عند المص ، وإنما المحجوم فلأنه لا يأمن من ضعف قوته بخروج الدم ، فيئول أمره إلى . أن يفطر ، وهذا أيضا جواب متكلف وسياق التصريح بما هو الحق .

1645 - ( وعن ابن عباس : { أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم } . رواه أحمد والبخاري .

وفي لفظ : { احتجم وهو محرم صائم } . رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه ) .

1646 - ( وعن { ثابت البناني أنه قال لأنس بن مالك : أكنتم تكرهون الحجامة للصائم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا إلا من أجل الضعف } رواه البخاري ) .

1647 - ( وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : إنما { نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصيام والحجامة للصائم إبقاء على أصحابه ولم [ ص: 240 ] يحرمهما } . رواه أحمد وأبو داود ) .

1648 - ( وعن أنس قال : { أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم ، فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أفطر هذان ، ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم . وكان أنس يحتجم وهو صائم } . رواه الدارقطني وقال : كلهم ثقات ولا أعلم له علة ) . حديث ابن عباس ورد على أربعة أوجه كما حكاه في التلخيص عن بعض الحفاظ . الأول : { احتجم وهو محرم } . الثاني : { احتجم وهو صائم } . الثالث : كالرواية الأولى التي ذكرها المصنف . الرابع : كالرواية الثانية التي ذكرها المصنف . وقد أخرج اللفظ الأول من الأربعة الشيخان من حديث عبد الله ابن بحينة ، وله طرق شتى عند النسائي وغيره من حديث أنس وجابر . والثاني رواه أصحاب السنن من طريق الحكم عن مقسم عن ابن عباس ، لكن أعل بأنه ليس من مسموع الحكم عن مقسم ، وله طرق أخرى . والثالث : أخرجه من ذكر المصنف وكذلك الرابع ، وأعله أحمد وعلي بن المديني وغيرهما ، فقال أحمد : ليس فيه صائم إنما هو محرم عند أصحاب ابن عباس . وقال أبو حاتم : هذا خطأ أخطأ فيه شريك . وقال الحميدي : إنه صلى الله عليه وسلم لم يكن محرما صائما لأنه خرج في رمضان في غزاة الفتح ولم يكن محرما انتهى . وإذا صح فينبغي أن يحمل على أن كل واحد من الصوم والإحرام وقع في حالة مستقلة ، وهذا لا مانع منه ، وقد صح " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام في رمضان وهو مسافر " . وزاد الشافعي وابن عبد البر وغير واحد " أن ذلك في حجة الوداع " . قال الحافظ : وفيه نظر ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفطرا كما صح { أن أم الفضل أرسلت إليه بقدح لبن فشربه وهو واقف بعرفة } وعلى تقدير وقوع ذلك قد قال ابن خزيمة : هذا الخبر لا يدل على أن الحجامة لا تفطر الصائم ; لأنه إنما احتجم وهو صائم محرم في سفر لا في حضر ; لأنه لم يكن قط محرما مقيما ببلد .

قال : وللمسافر أن يفطر ولو نوى الصوم ومضى عليه بعض النهار ، خلافا لمن أبى ذلك ثم احتج له ، لكن تعقب عليه الخطابي بأن قوله : وهو صائم دال على بقاء الصوم . قال الحافظ : قلت : ولا مانع من إطلاق ذلك باعتبار ما كان عليه حالة الاحتجام لأنه على هذا التأويل إنما أفطر بالاحتجام انتهى . وحديث أنس الأول اعترض البخاري فيه بأنه سقط من إسناده حميد ما بين شعبة وثابت البناني . وقال الحافظ : إن الخلل وقع فيه من غير البخاري وبين [ ص: 241 ] وجه ذلك .

وحديث عبد الرحمن بن أبي ليلى أخرجه أيضا عبد الرزاق . قال في الفتح : وإسناده صحيح ، والجهالة بالصحابي لا تضر .

وقوله : " إبقاء على أصحابه " متعلق بقوله : نهى . وقد رواه ابن أبي شيبة عن وكيع عن الثوري بإسناده هذا ، ولفظه عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا : إنما { نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة للصائم وكرهها للضعيف } أي لئلا يضعف وحديث أنس الآخر قال في الفتح : رواته كلهم من رجال البخاري .

وفي الباب عن أبي سعيد الخدري قال : { رخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة } أخرجه النسائي وابن خزيمة والدارقطني ، قال الحافظ : إسناده صحيح ورجاله ثقات ، لكن اختلف في رفعه ووقفه ، واستشهد له بحديث أنس المذكور . وله حديث آخر عند الترمذي والبيهقي أنه صلى الله عليه وسلم قال : { ثلاث لا يفطرن : القيء ، والحجامة ، والاحتلام } وفي إسناده عبد الرحمن بن يزيد بن أسلم وهو ضعيف . وقال الترمذي : هذا الحديث غير محفوظ . وقد رواه الدراوردي وغير واحد عن زيد بن أسلم مرسلا ، ورواه أبو داود عن زيد بن أسلم عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ورجحه أبو حاتم وأبو زرعة وقال : إنه أصح وأشبه بالصواب ، وتبعهما البيهقي . وقال الدارقطني : رواه كامل بن طلحة عن مالك عن زيد موصولا ثم رجع عنه ، وليس هو من حديث مالك قال : ورواه هشام بن سعد عن زيد موصولا ولا يصح ، وأخرجه في السنن .

وفي الباب عن ابن عباس عند البزار وهو معلول ، وعن ثوبان عند الطبراني وسنده ضعيف . وقد استدل الجمهور بالأحاديث المذكورة على أن الحجامة لا تفطر ، ولكن حديث ابن عباس لا يصلح لنسخ الأحاديث السابقة أما أولا فلأنه لم يعلم تأخره لما عرفت من عدم انتهاض تلك الزيادة ، أعني قوله في حجة الوداع . وإنما ثانيا فغاية فعل النبي صلى الله عليه وسلم الواقع بعد عموم يشمله أن يكون مخصصا له من العموم لا رافعا لحكم العام ، نعم حديث ابن أبي ليلى وأنس وأبي سعيد يدل على أن الحجامة غير محرمة ولا موجبة لإفطار الحاجم ولا المحجوم ، فيجمع بين الأحاديث بأن الحجامة مكروهة في حق من كان يضعف بها وتزداد الكراهة إذا كان الضعف يبلغ إلى حد يكون سببا للإفطار ، ولا تكره في حق من كان لا يضعف بها ، وعلى كل حال تجنب الحجامة للصائم أولى ، فيتعين حمل قوله : " أفطر الحاجم والمحجوم " على المجاز لهذه الأدلة الصارفة له عن معناه الحقيقي .

التالي السابق


الخدمات العلمية