صفحة جزء
[ ص: 254 ] باب كفارة من أفسد صوم رمضان بالجماع

1663 - ( عن أبي هريرة قال : { جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هلكت يا رسول الله ، قال : وما أهلكك ؟ قال : وقعت على امرأتي في رمضان ، قال : هل تجد ما تعتق رقبة ؟ قال : لا ، قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال : لا ، قال : هل تجد ما تطعم ستين مسكينا ؟ قال : لا : قال : ثم جلس فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر ، قال : تصدق بهذا ، قال : فهل على أفقر منا ؟ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ، وقال : اذهب فأطعمه أهلك } رواه الجماعة وفي لفظ ابن ماجه قال : { أعتق رقبة ، قال : لا أجدها ، قال : صم شهرين متتابعين ، قال : لا أطيق ، قال : أطعم ستين مسكينا } وذكره .

وفيه دلالة قوية على الترتيب . ولابن ماجه وأبي داود في رواية : " وصم يوما مكانه " وفي لفظ للدارقطني فيه { فقال : هلكت وأهلكت ، فقال : ما أهلكك ؟ قال : وقعت على أهلي } . وذكره ، وظاهر هذا أنها كانت مكرهة )


. في الباب عن عائشة عند الشيخين ، ولفظ الدارقطني الذي ذكره المصنف قال الخطابي : إنه تفرد به معلى بن منصور عن ابن عيينة ، وذكر البيهقي أن الحاكم نظر في كتاب معلى بن منصور فلم يجد هذه اللفظة ، يعني " هلكت وأهلكت " وأخرجها من رواية الأوزاعي وذكر أنها أدخلت على بعض الرواة في حديثه وأن أصحابه لم يذكروها . قال الحافظ : وقد رواه الدارقطني من رواية سلامة بن روح عن عقيل عن ابن شهاب قوله : ( جاء رجل ) قال عبد الغني في المبهمات : إن اسمه سلمان أو سلمة بن صخر البياضي . ويؤيده ما وقع عند ابن أبي شيبة عن سلمة بن صخر أنه ظاهر من امرأته .

وأخرج ابن عبد البر في التمهيد عن سعيد بن المسيب أنه : سلمان بن صخر . قوله : ( هلكت ) استدل به على أنه كان عامدا ; لأن الهلاك مجاز عن عصيان المؤدي إلى ذلك ، فكأنه جعل المتوقع كالواقع مجازا ، فلا يكون في الحديث حجة على وجوب الكفارة على الناسي وبه قال الجمهور . وقال أحمد وبعض المالكية : إنها تجب على الناسي ، واستدلوا بتركه صلى الله عليه وسلم للاستفصال وهو ينزل منزلة العموم . قال في الفتح : والجواب أنه قد تبين حاله بقوله : " هلكت واحترقت " وأيضا وقوع النسيان في الجماع في نهار رمضان في [ ص: 255 ] غاية البعد . قوله : ( وقعت على امرأتي ) في رواية : " أن رجلا أفطر في رمضان " وبهذا استدلت المالكية على وجوب الكفارة على من أفطر في رمضان بجماع أو غيره ، والجمهور حملوا المطلق على المقيد وقالوا : لا كفارة إلا في الجماع . قوله : ( رقبة ) استدلت الحنفية بإطلاق الرقبة على جواز إخراج الرقبة الكافرة . وأجيب عن ذلك بأنه يحمل المطلق على المقيد في كفارة القتل ، وبه قال الجمهور ، والخلاف في المسألة مبسوط في الأصول .

قوله : ( ستين مسكينا ) قال ابن دقيق العيد : أضاف الإطعام الذي هو مصدر أطعم إلى ستين فلا يكون ذلك موجودا في حق من أطعم ستة مساكين عشرة أيام مثلا ، وبه قال الجمهور . وقالت الحنفية : إنه لو أطعم الجميع مسكينا واحدا في ستين يوما كفى ، ويدل على قولهم . قوله : " فأطعمه أهلك " وفي ذلك دليل على أن الكفارة تجب بالجماع خلافا لمن شذ فقال : لا تجب ، مستندا إلى أنها لو كانت واجبة لما سقطت بالإعسار . وتعقب بمنع السقوط كما سيأتي ، وفيه أيضا دليل على أنه يجزئ التكفير بكل واحدة من الثلاث الخصال .

وروي عن مالك أنه لا يجزئ إلا الإطعام والحديث يرد عليه ، وظاهر الحديث أنه لا يجزئ التكفير بغير هذه الثلاث .

وروي عن سعيد بن المسيب أنه يجزئ إهداء البدنة كما في الموطأ عنه مرسلا . وقد روى سعيد بن منصور عن سعيد بن المسيب أنه كذب من نقل عنه ذلك . وظاهر الحديث أيضا أن الكفارة بالخصال الثلاث على الترتيب . قال ابن العربي : لأن النبي صلى الله عليه وسلم نقله من أمر بعد عدمه إلى أمر آخر ، وليس هذا شأن التخيير ، ونازع عياض في ظهور دلالة الترتيب في السؤال عن ذلك ، فقال : إن مثل هذا السؤال قد يستعمل فيما هو على التخيير وقرره ابن المنير . وقال البيضاوي : إن ترتيب الثاني على الأول والثالث على الثاني بالفاء يدل على عدم التخيير مع كونها في معرض البيان وجواب السؤال فتنزله منزلة الشرط ، وإلى القول بالترتيب ذهب الجمهور .

وقد وقع في الروايات ما يدل على الترتيب والتخيير والذين رووا الترتيب أكثر ومعهم الزيادة . وجمع المهلب والقرطبي بين الروايات بتعدد الواقعة . قال الحافظ : وهو بعيد لأن القصة واحدة والمخرج متحد ، والأصل عدم التعدد وجمع بعضهم بحمل الترتيب على الأولوية والتخيير على الجواز وعكسه بعضهم . قوله : ( فأتي النبي صلى الله عليه وسلم ) بضم الهمزة للأكثر على البناء للمجهول والرجل الآتي لم يسم . ووقع في رواية للبخاري : " فجاء رجل من الأنصار " وفي أخرى للدارقطني " رجل من ثقيف قوله : ( بعرق فيه تمر ) بفتح المهملة والراء بعدها قاف ، وفي رواية القابسي بإسكان الراء ، وقد أنكر ذلك عليه والصواب الفتح كما قال عياض . وقال الحافظ : الإسكان ليس بمنكر وهو الزنبيل ، والزنبيل : هو المكتل . قال في الصحاح : المكتل يشبه الزنبيل يسع خمسة عشر صاعا . ووقع عند الطبراني في [ ص: 256 ] الأوسط : أنه { أتي بمكتل فيه عشرون صاعا فقال : تصدق بهذا } وفي إسناده ليث بن أبي سليم ، ووقع مثل ذلك عند ابن خزيمة من حديث عائشة ، وفي مسلم عنها " فجاءه عرقان فيهما طعام " قال في الفتح : ووجهه أن التمر كان في عرق لكنه كان في عرقين في حال التحميل على الدابة ليكون أسهل ، فيحتمل أن الآتي به لما وصل أفرغ أحدهما في الآخر ، فمن قال عرقان أراد ابتداء الحال ، ومن قال عرق أراد ما آل عليه . وقد ورد في تقدير الإطعام حديث علي عند الدارقطني بلفظ " يطعم ستين مسكينا لكل مسكين مد " وفيه " فأتي بخمسة عشر صاعا فقال : أطعمه ستين مسكينا " وكذا عند الدارقطني من حديث أبي هريرة ، قال الحافظ : من قال عشرون أراد أصل ما كان عليه ، ومن قال خمسة عشر أراد قدر ما يقع به الكفارة . قوله : ( تصدق بهذا ) استدل به وبما قبله من قال : إن الكفارة تجب على الرجل فقط ، وبه قال الأوزاعي وهو الأصح من قولي الشافعي . وقال الجمهور : تجب على المرأة على اختلاف بينهم في الحرة والأمة والمطاوعة والمكرهة ، وهل هي عليها أو على الرجل ؟ واستدل الشافعي بسكوته عن إعلام المرأة في وقت الحاجة وتأخير البيان عنها لا يجوز ، ورد بأنها لم تعترف ولم تسأل فلا حاجة ، ولا سيما مع احتمال أن تكون مكرهة كما يرشد إلى ذلك قوله : في رواية الدارقطني " هلكت وأهلكت " . قوله : ( فهل على أفقر منا ) هذا يدل على أنه فهم من الأمر له بالتصدق أن يكون المتصدق عليه فقيرا قوله : ( فما بين لابتيها ) بالتخفيف تثنية لابة : وهي الحرة ، والحرة الأرض التي فيها حجارة سود ، يقال : لابة ولوبة ونوبة بالنون ، حكاهن الجوهري وجماعة من أهل اللغة ، والضمير عائد إلى المدينة : أي ما بين حرتي المدينة قوله : ( فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ) .

قيل : سبب ضحكه ما شاهده من حال الرجل حيث جاء خائفا على نفسه راغبا في فدائها مهما أمكنه ، فلما وجد الرخصة طمع في أن يأكل ما أعطيه في الكفارة وقيل : ضحك من بيان الرجل في مقاطع كلامه وحسن بيانه وتوسله إلى مقصوده . وظاهر هذا أنه وقع منه ضحك يزيد على التبسم فيحمل ما ورد في صفته صلى الله عليه وسلم أن ضحكه كان التبسم على غالب أحواله . قوله : ( فأطعمه أهلك ) استدل به على سقوط الكفارة بالإعسار لما تقرر من أنها لا تصرف في النفس والعيال ، ولم يبين له صلى الله عليه وسلم استقرارها في ذمته إلى حين يساره ، وهو أحد قولي الشافعي ، وجزم به عيسى بن دينار من المالكية .

وقال الجمهور : لا تسقط بالإعسار ، قالوا : وليس في الخبر ما يدل على سقوطها عن المعسر ، بل فيه ما يدل على استقرارها عليه ، قالوا : أيضا : والذي أذن له في التصرف فيه ليس على سبيل الكفارة ، وقيل : المراد بالأهل المذكورين من لا تلزمه نفقتهم ، وبه قال بعض الشافعية ، ورد بما وقع من التصريح في رواية : بالعيال ، وفي أخرى : [ ص: 257 ] من الإذن له بالأكل ، وقيل : لما كان عاجزا عن نفقة أهله جاز له أن يفرق الكفارة فيهم . وقيل غير ذلك ، وقد طول الكلام عليه في الفتح . قوله : ( وصم يوما مكانه ) يعني مكان اليوم الذي جامع فيه . قال الحافظ : وقد ورد الأمر بالقضاء في رواية أبي أويس وعبد الجبار وهشام بن سعد كلهم عن الزهري . وأخرجه البيهقي من طريق إبراهيم بن سعد عن الليث عن الزهري . وحديث إبراهيم بن سعد في الصحيح عن الزهري نفسه بغير هذه الزيادة . وحديث الليث عن الزهري في الصحيح بدونها ، ووقعت الزيادة أيضا في مرسل سعيد بن المسيب ونافع بن جبير والحسن ومحمد بن كعب . وبمجموع هذه الطرق الأربع يعرف أن لهذه الزيادة أصلا . وقد حكي عن الشافعي أنه لا يجب عليه القضاء ، واستدل له بأنه لم يقع التصريح في الصحيحين بالقضاء ، ويجاب بأن عدم الذكر له في الصحيحين لا يستلزم العدم ، وقد ثبت عند غيرهما كما تقدم . وظاهر إطلاق اليوم عدم اشتراط الفورية .

التالي السابق


الخدمات العلمية