صفحة جزء
أبواب ما يبيح الفطر وأحكام القضاء

باب الفطر والصوم في السفر

1677 - ( عن عائشة { أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أأصوم في السفر ؟ وكان كثير الصيام ، فقال : إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر } رواه الجماعة ) .

1678 - ( وعن أبي الدرداء قال : { خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في [ ص: 264 ] حر شديد ، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر ، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة } ) .

1679 - ( وعن جابر قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : صائم . فقال : ليس من البر الصوم في السفر } ) .

1680 - ( وعن أنس قال : { كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المفطر ، ولا المفطر على الصائم } ) .

1681 - ( وعن ابن عباس : { أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة ومعه عشرة آلاف وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة ، فسار بمن معه من المسلمين إلى مكة يصوم ويصومون حتى إذا بلغ الكديد ، وهو ماء بين عسفان وقديد ، أفطر وأفطروا ، وإنما يؤخذ من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآخر فالآخر } . متفق على هذه الأحاديث إلا أن مسلما له معنى حديث ابن عباس من غير ذكر عشرة آلاف ولا تاريخ الخروج ) .

1682 - ( وعن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال : { يا رسول الله أجد مني قوة على الصوم في السفر فهل علي جناح ؟ فقال : هي رخصة من الله تعالى ، فمن أخذ بها فحسن ، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه } رواه مسلم والنسائي وهو قوي الدلالة على فضيلة الفطر ) .

1683 - ( وعن أبي سعيد وجابر قالا : { سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصوم الصائم ويفطر المفطر فلا يعيب بعضهم على بعض } . رواه مسلم ) .

1684 - ( وعن أبي سعيد قال : { سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام ، قال : فنزلنا منزلا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنكم قد دنوتم من عدوكم ، والفطر أقوى [ ص: 265 ] لكم ، فكانت رخصة ، فمنا من صام ومنا من أفطر ، ثم نزلنا منزلا آخر فقال : إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا ، فكانت عزمة فأفطرنا ، ثم لقد رأيتنا نصوم بعد ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر } . رواه أحمد ومسلم وأبو داود ) .


قوله : ( أأصوم ) قال ابن دقيق العيد : ليس فيه تصريح بأنه صوم رمضان فلا يكون فيه حجة على من منع صوم رمضان في السفر . قال الحافظ : هو كما قال بالنسبة إلى سياق حديث الباب ، لكن في رواية لمسلم أنه أجابه بقوله : { هي رخصة من الله ، فمن أخذ بها فحسن ، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه } وهذا يشعر بأنه سأل عن صيام الفريضة ; لأن الرخصة إنما تطلق في مقابل ما هو واجب . وأصرح من ذلك ما أخرجه أبو داود والحاكم عنه أنه قال : { يا رسول الله إني صاحب ظهر أعالجه أسافر عليه وأكريه ، ربما صادفني هذا الشهر يعني رمضان وأنا أجد القوة وأجد لي أن الصوم أهون علي من أن أؤخره فيكون دينا ، فقال : أي ذلك شئت } .

وفي هذا الحديث دلالة استواء الصوم والإفطار في السفر قوله : ( في شهر رمضان ) هذا لفظ مسلم .

وفي البخاري " خرجنا مع النبي في بعض أسفاره " وبرواية مسلم يتم المراد من الاستدلال ، ويتوجه بها الرد على ابن حزم حيث زعم أن حديث أبي الدرداء هذا لا حجة فيه لاحتمال أن يكون ذلك الصوم تطوعا ، وقد قيل : إن هذا السفر هو غزوة الفتح وهو وهم ; لأن أبا الدرداء ذكر أن عبد الله بن رواحة كان صائما في هذا السفر ، وهو استشهد بمؤتة قبل غزوة الفتح بلا خلاف . وإن كانتا جميعا في سنة واحدة . وأيضا الذين صاموا في غزوة الفتح جماعة من الصحابة ، ولم يستثن أبو الدرداء في هذه الرواية مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا عبد الله بن رواحة .

وفي هذا الحديث دليل على أنه لا يكره الصوم لمن قوي عليه قوله : ( في سفر ) في رواية للبخاري وابن خزيمة أنها غزوة الفتح قوله : ( ورجلا قد ظلل عليه ) زعم مغلطاي أنه أبو إسرائيل وعزا ذلك إلى مبهمات الخطيب ولم يقل ذلك في هذه القصة ، وإنما قاله في قصة الذي نذر أن يصوم ويقوم في الشمس ، وكان ذلك يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب قال الحافظ : لم نقف على اسم هذا الرجل قوله : ( ليس من البر . . . إلخ ) قد أشار البخاري إلى أن السبب في قوله صلى الله عليه وسلم هذه المقالة هو ما ذكر من المشقة التي حصلت للرجل الذي ظلل عليه .

وفي ذلك دليل على أن الصيام في السفر لمن كان يشق عليه ليس بفضيلة .

وقد اختلف السلف في هذه المسألة ، أعني صوم رمضان في السفر ، فقالت طائفة : لا يجزئ الصوم عن الفرض ، بل من صام في السفر وجب عليه قضاؤه في الحضر ، وهو قول بعض الظاهرية ، وحكاه في البحر عن أبي هريرة وداود والإمامية . قال في الفتح : وحكي عن عمر وابن عمر وأبي هريرة والزهري وإبراهيم النخعي وغيرهم انتهى .

[ ص: 266 ] واحتجوا بقوله تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } قالوا : لأن ظاهر قوله فعدة : أي فالواجب عليه عدة ، وتأوله الجمهور بأن التقدير فأفطر فعدة واحتجوا أيضا بما في حديث ابن عباس المذكور في الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر في السفر ، وكان ذلك آخر الأمرين ، وأن الصحابة كانوا يأخذون بالآخر فالآخر من فعله ، فزعموا أن صومه صلى الله عليه وسلم في السفر منسوخ . وأجاب الجمهور عن ذلك بأن هذه الزيادة مدرجة من قول الزهري كما جزم بذلك البخاري في الجهاد ، وكذلك وقعت عند مسلم مدرجة ، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم صام بعد هذه القصة كما في حديث أبي سعيد المذكور في آخر الباب بلفظ " ثم لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر " . واحتجوا أيضا بما أخرجه مسلم عن جابر : { أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم وصام الناس ، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس ثم شرب ، فقيل له بعد ذلك : إن بعض الناس قد صام ، فقال : أولئك العصاة } . وفي رواية له { إن الناس قد شق عليهم الصيام وإنما ينظرون فيما فعلت ، فدعا بقدح من ماء بعد العصر } الحديث . وسيأتي . وأجاب عنه الجمهور بأنه إنما نسبهم إلى العصيان لأنه عزم عليهم فخالفوا . واحتجوا أيضا بما في حديث جابر المذكور في الباب من قوله : صلى الله عليه وسلم { ليس من البر الصوم في السفر } . وأجاب عنه الجمهور بأنه صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك في حق من شق عليه الصوم كما سبق بيانه في الفطر ، ولا شك أن الإفطار مع المشقة الزائدة أفضل ، وفيه نظر لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ولكن قيل : إن السياق والقرائن . تدل على التخصيص قال ابن دقيق العيد : وينبغي أن ينتبه للفرق بين دلالة السبب والسياق والقرائن على تخصيص العام ، وعلى مراد المتكلم وبين مجرد ورود العام على سبب ، فإن بين المقامين فرقا واضحا ، ومن أجراهما مجرى واحدا لم يصب ، فإن مجرد ورود العام على سبب لا يقتضي التخصيص به كنزول آية السرقة في قصة رداء صفوان وأما السياق والقرائن الدالة على مراد المتكلم فهي المرشدة إلى بيان المجملات كما في حديث الباب . وأيضا نفي البر لا يستلزم عدم صحة الصوم .

وقد قال الشافعي : يحتمل أن يكون المراد ليس من البر المفروض الذي من خالفه أثم . وقال الطحاوي : المراد بالبر هنا البر الكامل الذي هو أعلى المراتب ، وليس المراد به إخراج الصوم في السفر عن أن يكون برا ; لأن الإفطار قد يكون أبر من الصوم إذا كان للتقوي على لقاء العدو . وقال الشافعي : نفي البر المذكور في الحديث محمول على من أبى قبول الرخصة . وقد روى الحديث النسائي بلفظ : { ليس من البر أن تصوموا في السفر وعليكم برخصة الله لكم فاقبلوا } قال ابن القطان : إسنادها حسن متصل يعني الزيادة ، ورواها الشافعي ورجح ابن خزيمة [ ص: 267 ] الأول .

واحتجوا أيضا بما أخرجه ابن ماجه عن عبد الرحمن بن عوف مرفوعا { الصائم في السفر كالمفطر في الحضر } . ويجاب عنه بأن في إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف . ورواه الأثرم من طريق أبي سلمة عن أبيه مرفوعا . قال الحافظ : والمحفوظ عن أبي سلمة عن أبيه موقوفا ، كذا أخرجه النسائي وابن المنذر ، ورجح وقفه ابن أبي حاتم والبيهقي والدارقطني ومع وقفه فهو منقطع لأن أبا سلمة لم يسمع من أبيه ، وعلى تقدير صحته فهو محمول على الحالة التي يكون الفطر فيها أولى من الصوم حالة المشقة جمعا بين الأدلة . واحتجوا أيضا بما أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه عن أنس بن مالك الكعبي بلفظ : { إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة } ويجاب عنه بأنه مختلف فيه كما قال ابن أبي حاتم ، وعلى تسليم صحته فالوضع لا يستلزم عدم صحة الصوم في السفر وهو محل النزاع . وذهب الجمهور منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة إلى أن الصوم أفضل لمن قوي عليه ولم يشق به ، وبه قالت العترة .

وروي عن أنس وعثمان بن أبي العاص . وقال الأوزاعي وأحمد وإسحاق ; إن الفطر أفضل عملا بالرخصة وروي عن ابن عباس وابن عمر ، وقال عمر بن عبد العزيز واختاره ابن المنذر : أفضلهما أيسرهما فمن يسهل عليه حينئذ ويشق عليه قضاؤه بعد ذلك فالصوم في حقه أفضل . وقال آخرون : وهو مخير مطلقا ، والأولى أن يقال : من كان يشق عليه الصوم ويضره وكذلك من كان معرضا عن قبول الرخصة فالفطر أفضل . أما الطرف الأول فلما قدمنا من الأدلة في حجج القائلين بالمنع من الصوم . وأما الطرف الثاني فلحديث { إن الله يحب أن تؤتى رخصه } وقد تقدم . ولحديث : { من رغب عن سنتي فليس مني } وكذلك يكون الفطر أفضل في حق من خاف على نفسه العجب أو الرياء إذا صام في السفر . وقد روى الطبراني عن ابن عمر أنه قال : " إذا سافرت فلا تصم ، فإنك إن تصم قال أصحابك : اكفوا الصيام ادفعوا للصائم وقاموا بأمرك وقالوا : فلان صائم ، فلا تزال كذلك حتى يذهب أجرك " وأخرج نحوه أيضا من طريق أبي ذر . ومثل ذلك ما أخرجه البخاري في الجهاد . عن أنس مرفوعا إن النبي صلى الله عليه وسلم { قال للمفطرين لما خدموا الصائمين : ذهب المفطرون اليوم بالأجر } وما كان من الصيام خاليا عن هذه الأمور فهو أفضل من الإفطار . ومن أحب الوقوف على حقيقة المسألة فليراجع قبول البشرى في تيسير اليسرى للعلامة محمد بن إبراهيم قوله : ( الكديد ) بفتح الكاف وكسر الدال المهملة قوله : ( وقديد ) بضم القاف مصغرا ، وبين الكديد ومكة مرحلتان . قال عياض : اختلفت الروايات في الموضع الذي أفطر فيه النبي صلى الله عليه وسلم والكل في قضية واحدة وكلها متقاربة والجميع من عمل عسفان قوله : ( أجد مني قوة ) ظاهره أن الصوم لا يشق عليه ولا يفوت به حق وفي رواية لمسلم " إني رجل [ ص: 268 ] أسرد الصوم " وقد جعل المصنف رحمه الله تعالىهذا الحديث قوي الدلالة على فضيلة الفطر لقوله صلى الله عليه وسلم : { فمن أخذ بها فحسن ، ومن أحب أن يصوم فلا جناح } فأثبت للأخذ بالرخصة الحسن ، وهو أرفع من رفع الجناح .

وأجاب الجمهور بأن هذا فيمن يخاف ضررا أو يجد مشقة كما هو صريح في الأحاديث ، وقد أسلفنا تحقيق ذلك قوله : ( إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم ) فيه دليل على أن الفطر لمن وصل في سفره إلى موضع قريب من العدو أولى ; لأنه ربما وصل إليهم العدو إلى ذلك الموضع الذي هو مظنة ملاقاة العدو ، ولهذا كان الإفطار أولى ولم يتحتم . وأما إذا كان لقاء العدو متحققا فالإفطار عزيمة ; لأن الصائم يضعف عن منازلة الأقران ولا سيما عند غليان مراجل الضراب والطعان ، ولا يخفى ما في ذلك من الإهانة لجنود المحقين وإدخال الوهن على عامة . المجاهدين من المسلمين . فائدة : المسافة التي يباح الإفطار فيها هي المسافة التي يباح القصر فيها ، والخلاف هنا كالخلاف هناك ، وقد قدمنا تحقيق ذلك في باب القصر فليرجع إليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية