صفحة جزء
باب صوم المحرم وتأكيد عاشوراء

1712 - ( قد سبق { أنه صلى الله عليه وسلم سئل أي الصيام بعد رمضان أفضل ؟ قال : شهر الله المحرم } ) .

1713 - ( وعن ابن عباس { وسئل عن صوم عاشوراء ، فقال : ما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوما يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم ، ولا شهرا إلا هذا الشهر ، يعني رمضان } ) .

1714 - ( وعن عائشة قالت : { كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه ; فلما قدم المدينة صامه وأمر الناس بصيامه ; فلما فرض رمضان قال : من شاء صامه ومن شاء تركه } ) .

1715 - ( وعن سلمة بن الأكوع قال : { أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من أسلم أن أذن في الناس أن من أكل فليصم بقية يومه ، ومن لم يكن أكل فليصم ، فإن اليوم يوم عاشوراء } ) .

1716 - ( وعن علقمة أن الأشعث بن قيس دخل على عبد الله وهو يطعم يوم عاشوراء ، فقال : يا أبا عبد الرحمن إن اليوم يوم عاشوراء ، فقال : قد كان يصام قبل أن ينزل رمضان ، فلما نزل رمضان ترك فإن كنت مفطرا فاطعم ) . [ ص: 286 ]

1717 - ( وعن ابن عمر { أن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صامه والمسلمون قبل أن يفرض رمضان ; فلما فرض رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن يوم عاشوراء يوم من أيام الله فمن شاء صامه ، وكان ابن عمر لا يصومه إلا أن يوافق صيامه } ) .

1718 - ( وعن أبي موسى قال : { كان يوم عاشوراء تعظمه اليهود وتتخذه عيدا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صوموه أنتم } ) .

1719 - ( وعن ابن عباس قال : { قدم النبي صلى الله عليه وسلم فرأى اليهود تصوم عاشوراء ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : يوم صالح نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى ، فقال : أنا أحق بموسى منكم ، فصامه وأمر بصيامه } ) .

1720 - ( وعن معاوية بن أبي سفيان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { إن هذا يوم عاشوراء ولم يكتب عليكم صيامه وأنا صائم فمن شاء صام ، ومن شاء فليفطر } متفق على هذه الأحاديث كلها ، وأكثرها يدل على أن صومه وجب ثم نسخ ، ويقال : لم يجب بحال بدليل خبر معاوية ، وإنما نسخ تأكيد استحبابه ) .


قوله : ( قد سبق أنه صلى الله عليه وسلم سئل . . . إلخ ) هذا الحديث ذكره المصنف رحمه الله تعالىفي باب ما جاء في قيام الليل من أبواب صلاة التطوع وهو للجماعة إلا البخاري عن أبي هريرة .

وفيه دليل على أن أفضل صيام التطوع صوم شهر المحرم ، ولا يعارضه حديث أنس عند الترمذي قال : { سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصوم أفضل بعد رمضان ؟ قال : شعبان لتعظيم رمضان } لأن في إسناده صدقة بن موسى وليس بالقوي . ومما يدل على فضيلة الصيام في المحرم ما أخرجه الترمذي عن علي عليه السلام ، وحسنه أنه { سمع رجلا يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قاعد فقال : يا رسول الله أي شهر تأمرني أن أصوم بعد شهر رمضان ؟ فقال : إن كنت صائما بعد شهر رمضان فصم المحرم فإنه شهر الله ، فيه يوم تاب فيه على قوم ويتوب فيه على قوم } وقد استشكل قوم إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من صوم شعبان دون المحرم مع كون الصيام فيه أفضل من غيره . وأجيب عن ذلك بجوابين : [ ص: 287 ] الأول : أنه صلى الله عليه وسلم إنما علم فضل المحرم في آخر حياته والثاني : لعله كان يعرض له فيه سفر أو مرض أو غيرهما .

قوله : ( عن صوم عاشوراء ) قال في الفتح : هو بالمد على المشهور ، وحكي فيه القصر ، وزعم ابن دريد أنه اسم إسلامي وأنه لا يعرف في الجاهلية ، ورد ذلك ابن دحية بأن ابن الأعرابي حكى أنه سمع في كلامهم خابوراء ، كذا في الفتح . وبحديث عائشة المذكور في الباب : " إن الجاهلية كانوا يصومونه " ولكن صومهم له لا يستلزم أن يكون مسمى عندهم بذلك الاسم قال في الفتح أيضا : واختلف أهل الشرع في تعيينه فقال الأكثر : هو اليوم العاشر قال القرطبي : عاشوراء معدول عن عاشرة للمبالغة والتعظيم ، وهو في الأصل صفة الليلة العاشرة ; لأنه مأخوذ من العشر الذي هو اسم العقد ، واليوم مضاف إليها ، فإذا قيل يوم عاشوراء فكأنه قيل : يوم الليلة العاشرة ، إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الاسمية فامتنعوا عن الموصوف فحذفوا الليلة ، فصار هذا اللفظ علما على اليوم العاشر . وذكر أبو منصور الجواليقي أنه لم يسمع فاعولاء إلا هذا ، وضاروراء وساروراء وذالولاء من الضار والسار والذال . قال الزين بن المنير : الأكثر على أن عاشور هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم وهو مقتضى الاشتقاق والتسمية . وقيل : هو اليوم التاسع فعلى الأول اليوم مضاف لليلة الماضية ، وعلى الثاني هو مضاف لليلة الآتية . وقيل إنما سمي يوم التاسع عاشوراء أخذا من أوراد الإبل كانوا إذا رعوا الإبل ثمانية أيام ثم أوردوها في التاسع قالوا : وردنا عشرا بكسر العين

وروى مسلم من حديث الحكم بن الأعرج : { انتهيت إلى ابن عباس وهو متوسد رداءه ، فقلت أخبرني عن يوم عاشوراء ، قال : إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما ، فقلت : أهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم ؟ قال : نعم } وهذا ظاهره أن يوم عاشوراء هو التاسع انتهى كلام الفتح . وقد تأول قول ابن عباس هذا الزين بن المنير بأن معناه أنه ينوي الصيام في الليلة المتعقبة للتاسع ، وقواه الحافظ بحديث ابن عباس الآتي : أنه صلى الله عليه وسلم قال : { إذا كان المقبل إن شاء الله صمنا التاسع فلم يأت العام المقبل حتى توفي } ، قال : فإنه ظاهر في أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم العاشر وهم بصوم التاسع فمات قبل ذلك .

وأقول : الأولى أن يقال : إن ابن عباس أرشد السائل له إلى اليوم الذي يصام فيه وهو التاسع ولم يجب عليه بتعيين يوم عاشوراء أنه اليوم العاشر ; لأن ذلك مما لا يسأل عنه ولا يتعلق بالسؤال عنه فائدة ، فابن عباس لما فهم من السائل أن مقصوده تعيين اليوم الذي يصام فيه أجاب عليه بأنه التاسع . وقوله : " نعم " بعد قول السائل : " أهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم ؟ " بمعنى نعم هكذا كان يصوم لو بقي ; لأنه قد أخبرنا بذلك ولا بد من هذا ; لأنه صلى الله عليه وسلم مات قبل صوم التاسع . وتأويل ابن المنير في غاية البعد لأن قوله " وأصبح يوم التاسع صائما لا يحتمله " [ ص: 288 ] وسيأتي لكلام ابن عباس تأويل آخر قوله : ( ما علمت . . . إلخ ) هذا يقتضي أن يوم عاشوراء أفضل الأيام للصيام بعد رمضان ، ولكن ابن عباس أسند ذلك إلى علمه فليس فيه ما يرد علم غيره ، وقد تقدم أن أفضل الصوم بعد رمضان على الإطلاق صوم المحرم ، وتقدم أيضا في الباب الذي قبل هذا أن صوم يوم عرفة يكفر سنتين ، وصوم يوم عاشوراء يكفر سنة ، وظاهره أن صيام يوم عرفة أفضل من صيام يوم عاشوراء قوله : ( فلما قدم المدينة صامه ) فيه تعيين الوقت الذي وقع فيه الأمر بصيام عاشوراء ، وهو أول قدومه المدينة ، ولا شك بأن قدومه كان في ربيع الأول ، وحينئذ كان الأمر بذلك في أول السنة الثانية وفي السنة الثانية فرض شهر رمضان فعلى هذا لم يقع الأمر بصوم عاشوراء إلا في سنة واحدة ، ثم فوض الأمر في صومه إلى المتطوع قوله : ( من شاء صامه ومن شاء تركه ) هذا يرد على من قال ببقاء فرضية صوم عاشوراء ، كما نقله القاضي عياض عن بعض السلف . ونقل ابن عبد البر الإجماع على أنه ليس الآن بفرض ، والإجماع على أنه مستحب . وكان ابن عمر يكره قصده بالصوم ، ثم انعقد الإجماع بعده على الاستحباب .

قوله : ( وعن سلمة بن الأكوع ) قد تقدم شرح الحديث في باب الصبي يصوم إذا أطاق قوله : ( إن أهل الجاهلية كانوا يصومون . . . إلخ ) في حديث عائشة إنها كانت تصومه قريش . قال في الفتح : وأما صيام قريش لعاشوراء فلعلهم تلقوه من الشرع السالف كانوا يعظمونه بكسوة الكعبة وغير ذلك . قال الحافظ : ثم رأيت في المجلس الثالث من مجالس الباغندي الكبير عن عكرمة أنه سئل عن ذلك فقال : أذنبت قريش ذنبا في الجاهلية فعظم في صدورهم ، فقيل لهم : صوموا عاشوراء يكفر ذلك انتهى قوله : ( فرأى اليهود تصوم عاشوراء ) في رواية لمسلم : " فوجد اليهود صياما " وقد استشكل ظاهر هذا الخبر لاقتضائه أنه صلى الله عليه وسلم حين قدومه المدينة وجد اليهود صياما يوم عاشوراء . وإنما قدم المدينة في ربيع الأول .

وأجيب بأن المراد أن أول علمه بذلك وسؤاله عنه كان بعد أن قدم المدينة أو يكون في الكلام حذف وتقديره : قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فأقام إلى يوم عاشوراء فوجد اليهود فيه صياما . ويحتمل أن يكون أولئك اليهود كانوا يحسبون يوم عاشوراء بحساب السنين الشمسية ، فصادف يوم عاشوراء بحسابهم اليوم الذي قدم فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قوله : ( فصامه وأمر بصيامه ) قد استشكل رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى اليهود في ذلك . وأجاب المازري باحتمال أن يكون أوحي إليه بصدقهم أو تواتر عنده الخبر بذلك ، أو أخبره من أسلم منهم كابن سلام ، ثم قال : ليس في الخبر أنه ابتدأ الأمر بصيامه ، بل في حديث عائشة التصريح بأنه كان يصومه قبل ذلك ، فغاية ما في القصة أنه لم يحدث له بقول اليهود تجديد حكم ، ولا مخالفة بينه وبين حديث عائشة أن أهل الجاهلية كانوا يصومون كما تقدم ، إذ لا مانع [ ص: 289 ] من توارد الفريقين على صيامه مع اختلاف السبب في ذلك . قال القرطبي : وعلى كل حال فلم يصمه اقتداء بهم ، فإنه كان يصومه قبل ذلك ، وكان ذلك في الوقت الذي يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه

قوله : ( ولم يكتب عليكم صيامه . . . إلخ ) هذا كله من كلام النبي صلى الله عليه وسلم كما بينه النسائي . واستدل به على أنه لم يكن فرضا قط كما قال المصنف . قال الحافظ : ولا دلالة فيه لاحتمال أن يريد : ولم يكتب عليكم صيامه على الدوام كصيام رمضان ، وغايته أنه عام خص بالأدلة الدالة على تقدم وجوبه . ويؤيد ذلك أن معاوية إنما صحب النبي صلى الله عليه وسلم من سنة الفتح ، والذين شهدوا أمره بصيام عاشوراء والنداء بذلك شهدوه في السنة الأولى أول العام الثاني ، ويؤخذ من مجموع الأحاديث أنه كان واجبا لثبوت الأمر بصومه ، ثم تأكد الأمر بذلك ثم زيادة التأكيد بالنداء العام ، ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك ، ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يرضعن فيه الأطفال . ومقول ابن مسعود الثابت في مسلم : لما فرض رمضان ترك عاشوراء مع العلم بأنه ما ترك استحبابه بل هو باق ، فدل على أن المتروك وجوبه . وأما قول بعضهم : المتروك تأكيد استحبابه والباقي مطلق الاستحباب فلا يخفى ضعفه بل تأكد استحبابه باق ولا سيما مع استمرار الاهتمام ، حتى في عام وفاته صلى الله عليه وسلم حيث قال : " ولئن بقيت لأصومن التاسع " كما سيأتي ، ولترغيبه فيه وإخباره بأنه يكفر سنة ، فأي تأكيد أبلغ من هذا ؟ .

1721 - ( وعن ابن عباس قال : { لما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا : يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى ، فقال : إذا كان عام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع قال : فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله } صلى الله عليه وسلم رواه مسلم وأبو داود .

وفي لفظ : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع } ، يعني يوم عاشوراء . رواه أحمد ومسلم .

وفي رواية : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود ، صوموا قبله يوما وبعده يوما } رواه أحمد ) .

رواية أحمد هذه ضعيفة منكرة من طريق داود بن علي عن أبيه عن جده ، رواها عنه ابن أبي ليلى قوله : ( تعظمه اليهود والنصارى ) استشكل هذا بأن التعليل بنجاة موسى وغرق فرعون مما يدل على اختصاص ذلك بموسى واليهود .

وأجيب باحتمال أن يكون سبب تعظيم النصارى أن عيسى كان يصومه ، وهو ما لم ينسخ من شريعة موسى ; لأن كثيرا منها ما نسخ بشريعة عيسى لقوله تعالى: { ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم } وأكثر [ ص: 290 ] الأحكام إنما يتلقاها النصارى من التوراة . وقد أخرج أحمد عن ابن عباس أن السفينة استوت على الجودي فيه ، فصامه نوح وموسى شكرا لله تعالى ، وكان ذكر موسى دون غيره لمشاركته له في الفرح باعتبار نجاتهما وغرق أعدائهما قوله : ( صمنا اليوم التاسع ) يحتمل أن يكون المراد أنه لا يقتصر عليه بل يضيفه إلى اليوم العاشر ، إما احتياطا له وإما مخالفة لليهود والنصارى . ويحتمل أن المراد أنه يقتصر على صومه ، ولكنه ليس في اللفظ ما يدل على ذلك . ويؤيد الاحتمال الأول قوله في آخر الحديث : { صوموا قبله يوما وبعده يوما } فإنه صريح في مشروعية ضم اليومين إلى يوم عاشوراء .

وقد أخرج الحديث المذكور بمثل اللفظ الذي رواه أحمد والبيهقي وذكره في التلخيص وسكت عنه ، وقال بعض أهل العلم : إن قوله : " صمنا التاسع " يحتمل أنه أراد نقل العاشر إلى التاسع ، وأنه أراد أن يضيفه إليه في الصوم فلما توفي قبل ذلك كان الاحتياط صوم اليومين انتهى .

والظاهر أن الأحوط صوم ثلاثة أيام التاسع والعاشر والحادي عشر ، فيكون صوم عاشوراء على ثلاث مراتب : الأولى صوم العاشر وحده . والثانية صوم التاسع معه . والثالثة صوم الحادي عشر معهما ، وقد ذكر معنى هذا الكلام صاحب الفتح قوله : ( يعني يوم عاشوراء ) قد تقدم تأويل كلام ابن عباس بأن يوم عاشوراء هو اليوم التاسع ، وتأوله النووي بأنه مأخوذ من إظماء الإبل ، فإن العرب تسمي اليوم الخامس من أيامه رابعا ، وكذا باقي الأيام ، وعلى هذه النسبة فيكون التاسع عاشرا . قال : وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف أن عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم ممن قال بذلك سعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وأحمد وإسحاق وخلائق . قال : وهذا ظاهر الأحاديث ومقتضى اللفظ وأما تقدير أخذه من الإظماء فبعيد انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية