صفحة جزء
باب ما جاء في صوم شعبان والأشهر الحرم

1722 - ( عن أم سلمة : { أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصوم من السنة شهرا تاما إلا شعبان يصل به رمضان } . رواه الخمسة ولفظ ابن ماجه : { كان يصوم شهري شعبان ورمضان } ) .

1723 - ( وعن عائشة قالت : { لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم أكثر من شعبان فإنه كان يصومه كله } .

وفي لفظ { ما كان يصوم في شهر ، ما كان يصوم في شعبان ، كان [ ص: 291 ] يصومه إلا قليلا ، بل كان يصومه كله } .

وفي لفظ : { ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان ، وما رأيته في شهر أكثر منه صياما في شعبان } . متفق على ذلك كله ) .


حديث أم سلمة حسنه الترمذي قوله : ( شهرا تاما إلا شعبان ) وكذا قول عائشة " فإنه كان يصومه كله " . وقولها : " بل كان يصومه كله " ظاهره يخالف قول عائشة " كان يصومه إلا قليلا " وقد جمع بين هذه الروايات بأن المراد بالكل والتمام الأكثر . وقد نقل الترمذي عن ابن المبارك أنه قال : جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقال : صام الشهر كله ، ويقال : قام فلان ليلته أجمع ، ولعله قد تعشى واشتغل ببعض أمره . قال الترمذي : كأن ابن المبارك جمع بين الحديثين بذلك .

وحاصله أن رواية الكل والتمام مفسرة برواية الأكثر ومخصصة بها ، وأن المراد بالكل الأكثر ، وهو مجاز قليل الاستعمال واستبعده الطيبي قال : لأن لفظ كل تأكيد لإرادة الشمول ورفع التجوز ، فتفسيره بالبعض مناف له ، قال : فيحمل على . أنه كان يصوم شعبان كله تارة ، ويصوم معظمه أخرى لئلا يتوهم أنه واجب كله كرمضان ، وقيل المراد بقولها : " كله " أنه كان يصوم من أوله تارة ومن آخره أخرى ، ومن أثنائه طورا فلا يخلي شيئا منه من صيام ولا يخص بعضا منه بصيام دون بعض . وقال الزين بن المنير : إما أن يحمل قول عائشة على المبالغة ، والمراد الأكثر ، وإما أن يجمع بأن قولها : " إنه كان يصومه كله " متأخر عن قولها : " إنه كان يصوم أكثره " وأنها أخبرت عن أول الأمر ثم أخبرت عن آخره ، ويؤيد الأول قولها : { ولا صام شهرا كاملا قط منذ قدم المدينة غير رمضان } أخرجه مسلم والنسائي .

واختلف في الحكمة في إكثاره صلى الله عليه وسلم من صوم شعبان فقيل : كان يشتغل عن صيام الثلاثة الأيام من كل شهر لسفر أو غيره فتجتمع فيقضيها في شعبان ، أشار إلى ذلك ابن بطال . ويؤيده ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن عائشة قالت : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر فربما أخر ذلك حتى يجتمع عليه صوم السنة فيصوم شعبان } ، ولكن في إسناده ابن أبي ليلى وهو ضعيف . وقيل : كان يصنع ذلك لتعظيم رمضان ، ويؤيده ما أخرجه الترمذي عن أنس قال : { سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الصوم أفضل بعد رمضان ؟ فقال : شعبان لتعظيم رمضان } ولكن إسناده ضعيف ; لأن فيه صدقة بن موسى وليس بالقوي . وقيل : الحكمة في ذلك أن نساءه كن يقضين ما عليهن من رمضان في شعبان ، فكان يصوم معهن . وقيل : الحكمة أنه يتعقبه رمضان وصومه مفترض ، فكان [ ص: 292 ] يكثر من الصوم في شعبان قدر ما يصوم شهرين غيره لما يفوته من التطوع الذي يعتاده بسبب صوم رمضان . والأولى أن الحكمة في ذلك غفلة الناس عنه لما أخرجه النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة من حديث أسامة قال : { قلت : يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان ، قال : ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان ، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم } ونحوه من حديث عائشة عند أبي يعلى ، ولا تعارض بينه وبين ما روي عنه صلى الله عليه وسلم من صوم شعبان أو أكثره ووصله برمضان وبين أحاديث النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين ، وكذا ما جاء من النهي عن صوم نصف شعبان الثاني فإن الجمع بينها ظاهر بأن يحمل النهي على من لم يدخل تلك الأيام في صيام يعتاده ، وقد تقدم تقييد أحاديث النهي عن التقدم بقوله صلى الله عليه وسلم { إلا أن يكون شيئا يصومه أحدكم . } .

فائدة : ظاهر قوله في حديث أسامة : " إن شعبان شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان أنه يستحب صوم رجب ; لأن الظاهر أن المراد أنهم يغفلون عن تعظيم شعبان بالصوم كما يعظمون رمضان ورجبا به . ويحتمل أن المراد غفلتهم عن تعظيم شعبان بصومه كما يعظمون رجبا بنحر النحائر فيه ، فإنه كان يعظم ذلك عند الجاهلية وينحرون فيه العتيرة كما ثبت في الحديث ، والظاهر الأول . المراد بالناس : الصحابة ، فإن الشارع قد كان إذ ذاك محا آثار الجاهلية ، ولكن غايته التقرير لهم على صومه ، وهو لا يفيد زيادة على الجواز . وقد ورد ما يدل على مشروعية صومه على العموم والخصوص . أما العموم فالأحاديث الواردة في الترغيب في صوم الأشهر الحرم وهو منها بالإجماع . وكذلك الأحاديث الواردة في مشروعية مطلق الصوم . وأما على الخصوص فما أخرجه الطبراني عن سعيد بن أبي راشد مرفوعا بلفظ : { من صام يوما من رجب فكأنما صام سنة ، ومن صام منه سبعة أيام غلقت عنه أبواب جهنم ، ومن صام منه ثمانية أيام فتحت له ثمانية أبواب الجنة ، ومن صام منه عشرة لم يسأل الله شيئا إلا أعطاه ، ومن صام منه خمسة عشر يوما نادى مناد من السماء قد غفر لك ما مضى فاستأنف العمل ، ومن زاد زاده الله } ثم ساق حديثا طويلا في فضله . وأخرج الخطيب عن أبي ذر { من صام يوما من رجب عدل صيام شهر } وذكر . نحو حديث سعيد بن أبي راشد . وأخرج نحوه أبو نعيم وابن عساكر من حديث ابن عمر مرفوعا .

وأخرج أيضا نحوه البيهقي في شعب الإيمان عن أنس مرفوعا .

وأخرج الخلال عن أبي سعيد مرفوعا { رجب من شهور الحرم ، وأيامه مكتوبة على أبواب السماء السادسة فإذا صام الرجل منه يوما وجدد صومه بتقوى الله نطق الباب ونطق اليوم وقالا : يا رب اغفر له ، وإذا لم يتم صومه بتقوى الله لم يستغفر له ، وقيل : خدعتك نفسك } [ ص: 293 ] وأخرج أبو الفتوح بن أبي الفوارس في أماليه عن الحسن مرسلا أنه قال صلى الله عليه وسلم : { رجب شهر الله ، وشعبان شهري ، ورمضان شهر أمتي } . وحكى ابن السبكي عن محمد بن منصور السمعاني أنه قال : لم يرد في استحباب صوم رجب على الخصوص سنة ثابتة ، والأحاديث التي تروى فيه واهية لا يفرح بها عالم . وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه أن عمر كان يضرب أكف الناس في رجب حتى يضعوها في الجفان ويقول : كلوا فإنما هو شهر كان تعظمه الجاهلية .

وأخرج أيضا من حديث زيد بن أسلم قال : { سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم رجب فقال : أين أنتم من شعبان } ؟ .

وأخرج عن ابن عمر ما يدل على أنه كان يكره صوم رجب . ولا يخفاك أن الخصوصات إذا لم تنتهض للدلالة على استحباب صومها انتهضت العمومات ، ولم يرد ما يدل على الكراهة حتى يكون مخصصا لها . وأما حديث ابن عباس عند ابن ماجه بلفظ : إن النبي صلى الله عليه وسلم { نهى عن صيام رجب } ففيه ضعيفان : زيد بن عبد الحميد ، وداود بن عطاء .

1724 - ( وعن رجل من باهلة قال : { أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله أنا الرجل الذي أتيتك عام الأول ، فقال : فما لي أرى جسمك ناحلا ؟ قال : يا رسول الله ما أكلت طعاما بالنهار ، ما أكلته إلا بالليل ، قال : من أمرك أن تعذب نفسك ؟ قلت : يا رسول الله إني أقوى ، قال : صم شهر الصبر ويوما بعده ، قلت : إني أقوى ، قال : صم شهر الصبر ويومين بعده ، قلت : إني أقوى ، قال : صم شهر الصبر وثلاثة أيام بعده ، وصم أشهر الحرم } رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وهذا لفظه ) .

الحديث أخرجه أيضا النسائي ، وقد اختلف في اسم الرجل الذي من باهلة ، فقال أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة : إن اسمه عبد الله بن الحارث ، وقال : سكن البصرة وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا ولم يسمه ، وذكر في موضع آخر هذا الحديث ، وكذلك قال ابن قانع في معجم الصحابة : إن اسمه عبد الله بن الحارث ، والراوي عنه مجيبة الباهلية بضم الميم وكسر الجيم ; وسكون الياء آخر الحروف وبعدها باء موحدة مفتوحة وتاء تأنيث ، ففي رواية أبي داود عن أبيها أو عمها : يعني هذا الرجل ، وهكذا قال أبو القاسم البغوي أنها قالت : حدثني أبي أو عمي .

وفي رواية النسائي مجيبة الباهلي عن عمه ، وقد ضعف هذا الحديث بعضهم لهذا الاختلاف . قال المنذري : وهو متوجه وفيه نظر ; لأن مثل [ ص: 294 ] هذا الاختلاف لا ينبغي أن يعد قادحا في الحديث قوله : ( صم شهر الصبر ) يعني رمضان ، قوله : ( ويوما بعده ) إلى قوله : " وثلاثة أيام بعده " فيه دليل على استحباب صوم يوم أو يومين أو ثلاثة بعد شهر رمضان ، وقد تقدم أنه يستحب صيام ستة أيام فلا منافاة ; لأن الزيادة مقبولة . قوله : ( وصم أشهر الحرم ) هي شهر القعدة والحجة ومحرم ورجب .

وفيه دليل على مشروعية صومها . أما شهر محرم ورجب فقد قدمنا ما ورد فيهما على الخصوص ، وكذلك العشر الأول من شهر ذي الحجة . وأما شهر ذي القعدة وبقية شهر ذي الحجة فلهذا العموم ، ولكنه ينبغي أن لا يستكمل صوم شهر منها ولا صوم جميعها ، ويدل على ذلك ما عند أبي داود من الحديث بلفظ : { صم من الحرم واترك ، صم من الحرم واترك ، صم من الحرم واترك } .

التالي السابق


الخدمات العلمية