صفحة جزء
باب طواف القدوم والرمل والاضطباع فيه

1946 - ( عن ابن عمر { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثا ، ومشى أربعا ، وكان يسعى ببطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة ، وفي رواية : رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجر إلى الحجر ثلاثا ، ومشى أربعا وفي رواية : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طاف في الحج والعمرة أول ما يقدم فإنه يسعى ثلاثة أطواف بالبيت ويمشي أربعة } متفق عليهن )


قوله : ( الطواف الأول ) فيه دليل على أن الرمل إنما يشرع في طواف القدوم ; لأنه الطواف الأول ، قال أصحاب الشافعي : ولا يستحب الرمل إلا في طواف واحد في حج [ ص: 46 ] أو عمرة أما إذا طاف في غير حج أو عمرة فلا رمل ، قال النووي : بلا خلاف ، ولا يشرع أيضا في كل طوافات الحج بل إنما يشرع في واحد منها ، وفيه قولان مشهوران للشافعي أصحهما : طواف يعقبه سعي ويتصور ذلك في طواف القدوم ، وفي طواف الإفاضة ، ولا يتصور في طواف الوداع والقول الثاني : أنه لا يشرع إلا في طواف القدوم ، وسواء أراد السعي بعده أم لا ، ويشرع في طواف العمرة إذ ليس فيها إلا طواف واحد قوله : ( خب ثلاثا ومشى أربعا ) الخبب بفتح المعجمة والموحدة بعدها موحدة أخرى هو إسراع المشي مع تقارب الخطا وهو كالرمل وفيه دليل على مشروعية الرمل في الطواف الأول وهو الذي عليه الجمهور ، قالوا : هو سنة ، وقال ابن عباس : ليس هو بسنة من شاء رمل ومن شاء لم يرمل ، وفيه أيضا دليل على أن السنة أن يرمل في الثلاثة الأولى ويمشي على عادته في الأربعة الباقية قوله : ( وكان يسعى ) . . . إلخ .

سيأتي الكلام على السعي قوله : ( من الحجر إلى الحجر ) فيه دليل على أنه يرمل في ثلاثة أشواط كاملة ، قال في الفتح : ولا يشرع تدارك الرمل فلو تركه في الثلاثة لم يقضه في الأربعة ; لأن هيئتها السكينة ولا تتغير وكذا قالت الهادوية قال : ويختص بالرجال فلا رمل على النساء ويختص بطواف يتعقبه سعي على المشهور ولا فرق في استحبابه بين ماش وراكب ولا دم بتركه عند الجمهور ، واختلف في ذلك المالكية .

وقد روي عن مالك أن عليه دما ولا دليل على ذلك واعلم أنه قد اختلف في وجوب طواف القدوم فذهبت العترة ومالك وأبو ثور وبعض أصحاب الشافعي إلى أنه فرض لقوله تعالى: { وليطوفوا بالبيت العتيق } ولفعله صلى الله عليه وسلم وقوله : { خذوا عني مناسككم } وقال أبو حنيفة : إنه سنة ، وقال الشافعي : هو كتحية المسجد ، قالا : لأنه ليس فيه إلا فعله صلى الله عليه وسلم وهو لا يدل على الوجوب .

وأما الاستدلال على الوجوب بالآية فقال شارح البحر : إنها لا تدل على طواف القدوم ; لأنها في طواف الزيارة إجماعا والحق الوجوب ; لأن فعله صلى الله عليه وسلم مبين لمجمل واجب هو قوله تعالى: { ولله على الناس حج البيت } وقوله صلى الله عليه وسلم : { خذوا عني مناسككم } وقوله : { حجوا كما رأيتموني أحج } وهذا الدليل يستلزم وجوب كل فعل فعله النبي صلى الله عليه وسلم في حجه إلا ما خصه دليل فمن ادعى عدم وجوب شيء من أفعاله في الحج فعليه الدليل على ذلك ، وهذه كلية فعليك بملاحظتها في جميع الأبحاث التي ستمر بك .

1947 - ( وعن يعلى بن أمية { أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف مضطبعا وعليه برد } . رواه ابن [ ص: 47 ] ماجه والترمذي وصححه وأبو داود وقال : ببرد له أخضر ، وأحمد ولفظه : لما قدم مكة طاف بالبيت وهو مضطبع ببرد له حضرمي ) .

1948 - ( وعن ابن عباس { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من جعرانة فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم ، ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى } . رواه أحمد وأبو داود ) حديث يعلى بن أمية صححه الترمذي كما ذكره المصنف ، وسكت عنه أبو داود والمنذري وحديث ابن عباس أخرج نحوه الطبراني ، وسكت عنه أيضا أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص ورجاله رجال الصحيح . وقد صحح حديث الاضطباع النووي في شرح مسلم

قوله : ( مضطبعا ) هو افتعال من الضبع بإسكان الباء الموحدة وهو العضد وهو أن يدخل إزاره تحت إبطه الأيمن ويرد طرفه على منكبه الأيسر ويكون منكبه الأيمن مكشوفا كذا في شرح مسلم للنووي وشرح البخاري للحافظ وهذه الهيئة هي المذكورة في حديث ابن عباس المذكور والحكمة في فعله أنه يعين على إسراع المشي وقد ذهب إلى استحبابه الجمهور سوى مالك قاله ابن المنذر قال أصحاب الشافعي : وإنما يستحب الاضطباع في طواف يسن فيه الرمل قوله : ( ببرد له حضرمي ) لفظ أبي داود ببرد أخضر قوله : ( تحت آباطهم ) قال ابن رسلان : المراد أن يجعله تحت عاتقه الأيمن .

قوله : ( ثم قذفوها ) أي : طرحوا طرفيها قوله : ( على عواتقهم ) ، العاتق : المنكب

1949 - وعن ابن عباس قال : { قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال المشركون : إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة وأن يمشوا ما بين الركنين ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم } . متفق عليه .

1950 - ( وعن ابن عباس قال : { رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته وفي عمره كلها وأبو بكر وعمر والخلفاء } . رواه أحمد ) .

1951 - ( وعن عمر قال : { فيما الرملان الآن والكشف عن المناكب وقد أطى الله [ ص: 48 ] الإسلام ونفى الكفر وأهله ومع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم } . رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه ) .

1952 - ( وعن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرمل في السبع الذي أفاض فيه } . رواه أبو داود وابن ماجه ) حديث ابن عباس الثاني أخرجه أحمد من طريق أبي معاوية ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عنه ، وذكره في التلخيص ، وسكت عنه وأثر عمر أخرجه أيضا البزار والحاكم والبيهقي وأصله في البخاري بلفظ : { ما لنا وللرمل إنما كنا راءينا المشركين وقد أهلكهم الله تعالى ثم قال : شيء صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نحب أن نتركه } وعزاه البيهقي إليه ومراده أصله وحديث ابن عباس الثالث أخرجه أيضا النسائي والحاكم .

قوله : ( يقدم ) بفتح الدال وأما بضم الدال فمعناه يتقدم قوله : ( وهنتهم ) بتخفيف الهاء وقد يستعمل رباعيا قال الفراء : يقال : وهنه الله وأوهنه ومعنى وهنتهم : أضعفتهم قوله : ( حمى يثرب ) هو اسم المدينة في الجاهلية وسميت في الإسلام المدينة وطيبة وطابة قوله : ( الأشواط ) بفتح الهمزة وسكون المعجمة جمع شوط وهو الجري مرة إلى الغاية والمراد به هنا الطوفة حول الكعبة وهذا دليل على جواز تسمية الطواف شوطا وقال مجاهد والشعبي : إنه يكره تسميته شوطا ، والحديث يرد عليهما قوله : ( إلا الإبقاء ) بكسر الهمزة وبالموحدة والقاف : الرفق والشفقة وهو بالرفع على أنه فاعل لم يمنعه ويجوز النصب ، وفي الحديث جواز إظهار القوة بالعدة والسلاح ونحو ذلك للكفار إرهابا لهم ولا يعد ذلك من الرياء المذموم وفيه جواز المعاريض بالفعل كما تجوز بالقول قال في الفتح : وربما كانت بالفعل أولى .

قوله : ( وفي عمره كلها ) فيه دليل على مشروعية الرمل في طواف العمرة قوله : ( فيما الرملان ) بإثبات ألف ما الاستفهامية وهي لغة والأكثر يحذفونها والرملان مصدر رمل قوله : ( والكشف عن المناكب ) هو الاضطباع قوله : ( أطى ) أصله وطى فأبدلت الواو همزة كما في وقت وأقت ومعناه مهد وثبت قوله : ( ومع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) زاد الإسماعيلي في آخره : ثم رمل وحاصله أن عمر كان قد هم بترك الرمل في الطواف ; لأنه عرف سببه وقد انقضى فهم أن يتركه لفقد سببه ثم رجع عن ذلك لاحتمال أن يكون له حكمة ما اطلع عليها فرأى أن الاتباع أولى ويؤيد مشروعية الرمل على الإطلاق ما ثبت في حديث ابن عباس [ ص: 49 ] أنهم رملوا في حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نفى الله في ذلك الوقت الكفر وأهله عن مكة والرمل في حجة الوداع ثابت أيضا في حديث جابر الطويل عند مسلم وغيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية