صفحة جزء
باب النهي أن يبيع حاضر لباد 2201 - ( عن ابن عمر قال { : نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد . } رواه البخاري والنسائي ) .

2202 - ( وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا يبيع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض . } رواه الجماعة إلا البخاري ) .

2203 - ( وعن أنس قال { : نهينا أن يبيع حاضر لباد وإن كان أخاه لأبيه وأمه } متفق عليه ، ولأبي داود والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم { نهى أن يبيع حاضر لباد وإن كان أباه أو أخاه } ) [ ص: 195 ]

2204 - ( وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا تلقوا الركبان ولا يبع حاضر لباد فقيل لابن عباس : ما قوله : لا يبع حاضر لباد ؟ قال : لا يكون له سمسارا . } رواه الجماعة إلا الترمذي )


قوله : ( حاضر لباد ) الحاضر : ساكن الحضر ، والبادي : ساكن البادية . قال في القاموس : الحضر ، والحاضرة والحضارة وتفتح خلاف البادية ، والحضارة : الإقامة في الحضر ، ثم قال : والحاضر خلاف البادي ، وقال البدر : والبادية والبادات والبداوة خلاف الحضر ، وتبدى : أقام بها ، وتبادى : تشبه بأهلها ، والنسبة بداوي وبدوي وبدا القوم : خرجوا إلى البادية انتهى . قوله : ( دعوا الناس ) . . . إلخ ، في مسند أحمد من طريق عطاء بن السائب عن حكيم بن أبي يزيد عن أبيه ، حدثني أبي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض ، فإذا استنصح الرجل فلينصح له } ورواه البيهقي من حديث جابر مثله .

قوله : ( لا تلقوا الركبان ) سيأتي الكلام عليه . قوله : ( سمسارا ) بسينين مهملتين . قال في الفتح : وهو في الأصل القيم بالأمر والحافظ ، ثم استعمل في متولي البيع والشراء لغيره ، وأحاديث الباب تدل على أنه لا يجوز للحاضر أن يبيع للبادي من غير فرق بين أن يكون البادي قريبا له أو أجنبيا ، وسواء كان في زمن الغلاء أو لا ، وسواء كان يحتاج إليه أهل البلد أم لا ، وسواء باعه له على التدريج أم دفعة واحدة وقالت الحنفية : إنه يختص المنع من ذلك بزمن الغلاء وبما يحتاج إليه أهل المصر .

وقالت الشافعية والحنابلة : إن الممنوع إنما هو أن يجيء البلد بسلعة يريد بيعها بسعر الوقت في الحال ، فيأتيه الحاضر فيقول : ضعه عندي لأبيعه لك على التدريج بأغلى من هذا السعر قال في الفتح : فجعلوا الحكم منوطا بالبادي ومن شاركه في معناه ، قالوا : وإنما ذكر البادي في الحديث لكونه الغالب ، فألحق به من شاركه في عدم معرفة السعر من الحاضرين ، وجعلت المالكية البداوة قيدا ، وعن مالك : لا يلتحق بالبدوي في ذلك إلا من كان يشبهه . فأما أهل القرى الذين يعرفون أثمان السلع والأسواق فليسوا داخلين في ذلك ، وحكى ابن المنذر عن الجمهور أن النهي للتحريم إذا كان البائع عالما والمبتاع مما تعم الحاجة إليه ولم يعرضه البدوي على الحضري ، ولا يخفى أن تخصيص العموم بمثل هذه الأمور من التخصيص بمجرد الاستنباط وقد ذكر ابن دقيق العيد فيه تفصيلا حاصله أنه يجوز التخصيص به حيث يظهر المعنى ، لا حيث يكون خفيا ، فاتباع اللفظ أولى ، [ ص: 196 ] ولكنه لا يطمئن الخاطر إلى التخصيص به مطلقا ، فالبقاء على ظواهر النصوص هو الأولى ، فيكون بيع الحاضر للبادي محرما على العموم ، وسواء كان بأجرة أم لا ؟ وروي عن البخاري أنه حمل النهي على البيع بأجرة لا بغير أجرة فإنه من باب النصيحة

وروي عن عطاء ومجاهد وأبي حنيفة أنه يجوز بيع الحاضر للبادي مطلقا ، وتمسكوا بأحاديث النصيحة وروي مثل ذلك عن الهادي ، وقالوا : إن أحاديث الباب منسوخة ، واستظهروا على الجواز بالقياس على توكيل البادي للحاضر فإنه جائز ، ويجاب عن تمسكهم بأحاديث النصيحة بأنها عامة مخصصة بأحاديث الباب . فإن قيل : إن أحاديث النصيحة وأحاديث الباب بينها عموم وخصوص من وجه ; لأن بيع الحاضر للبادي قد يكون على غير وجه النصيحة ، فيحتاج حينئذ إلى الترجيح من خارج كما هو شأن الترجيح بين العمومين المتعارضين ، فيقال : المراد بيع الحاضر للبادي الذي جعلناه أخص مطلقا هو البيع الشرعي ، بيع المسلم للمسلم الذي بينه الشارع للأمة ، وليس بيع الغش والخداع داخلا في مسمى هذا البيع الشرعي ، كما أنه لا يدخل فيه بيع الربا وغيره مما لا يحل شرعا ، فلا يكون البيع باعتبار ما ليس بيعا شرعيا أعم من وجه حتى يحتاج إلى طلب مرجح بين العمومين ; لأن ذلك ليس هو البيع الشرعي

ويجاب عن دعوى النسخ بأنها إنما تصح عند العلم بتأخر الناسخ ولم ينقل ذلك ، وعن القياس بأنه فاسد الاعتبار لمصادمته النص ، على أن أحاديث الباب أخص من الأدلة القاضية بجواز التوكيل مطلقا ، فيبنى العام على الخاص واعلم أنه كما لا يجوز أن يبيع الحاضر للبادي ، كذلك لا يجوز أن يشتري له ، وبه قال ابن سيرين والنخعي ، وعن مالك روايتان ، ويدل لذلك ما أخرجه أبو داود عن أنس بن مالك أنه قال : كان يقال : { لا يبع حاضر لباد } . وهي كلمة جامعة لا يبيع له شيئا ولا يبتاع له شيئا ، ولكن في إسناده أبو هلال محمد بن سليم الراسبي ، وقد تكلم فيه غير واحد ، وأخرج أبو عوانة في صحيحه عن ابن سيرين قال : لقيت أنس بن مالك فقلت : لا يبع حاضر لباد ، أنهيتم أن تبيعوا أو تبتاعوا لهم ؟ قال : نعم ، قال محمد : صدق إنها كلمة جامعة ، ويقوي ذلك العلة التي نبه عليها صلى الله عليه وسلم بقوله : { دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض }

فإن ذلك يحصل بشراء من لا خبرة له بالأثمان كما يحصل ببيعه ، وعلى فرض عدم ورود نص يقضي بأن الشراء حكمه حكم البيع ، فقد تقرر أن لفظ البيع يطلق على الشراء وأنه مشترك بينهما ، كما أن لفظ الشراء يطلق على البيع لكونه مشتركا بينهما ، والخلاف في جواز استعمال المشترك في معنييه أو معانيه معروف في الأصول ، والحق الجواز إن لم يتناقضا .

التالي السابق


الخدمات العلمية