صفحة جزء
باب الرخصة في بيع العرايا 2255 - ( عن رافع بن خديج وسهل بن حثمة أن النبي صلى الله عليه وسلم { نهى عن المزابنة [ ص: 237 ] بيع الثمر بالتمر إلا أصحاب العرايا فإنه قد أذن لهم } رواه أحمد والبخاري والترمذي ، وزاد فيه : وعن بيع العنب بالزبيب ، وعن كل تمر بخرصه ) .

2256 - ( وعن سهل بن أبي حثمة قال { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر بالتمر ، ورخص في العرايا أن يشتري بخرصها يأكلها أهلها رطبا } متفق عليه ، وفي لفظ : { عن بيع الثمر بالتمر ، وقال : ذلك الربا تلك المزابنة إلا أنه رخص في بيع العرية النخلة والنخلتين يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا يأكلونها رطبا } متفق عليه ) .

2257 - ( وعن جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم { يقول حين أذن لأهل العرايا أن يبيعوها بخرصها يقول : الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة } رواه أحمد ) .

2258 - ( وعن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم { رخص في بيع العرايا أن تباع بخرصها كيلا } رواه أحمد والبخاري ، وفي لفظ : { رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا يأكلونها رطبا } . متفق عليه ، وفي لفظ آخر : { رخص في بيع العرية بالرطب أو بالتمر ولم يرخص في غير ذلك } أخرجاه ، وفي لفظ : { بالتمر وبالرطب } رواه أبو داود ) .


حديث جابر أخرجه أيضا الشافعي ، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم ، وفي الباب عن أبي هريرة عند الشيخين : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق } . قوله : ( بيع الثمر بالتمر ) الأول بالمثلثة وفتح الميم ، والثاني بالمثناة الفوقية وسكون الميم والمراد بالأول ثمر النخلة ، وقد صرح بذلك مسلم في رواية فقال ثمر النخلة وليس المراد الثمر من غير النخل ; لأنه يجوز بيعه بالتمر بالمثناة وسكون الميم .

قوله : ( إلا أصحاب العرايا ) جمع عرية قال في الفتح : وهي في الأصل عطية ثمر النخل دون الرقبة كانت العرب في الجدب تتطوع بذلك على من لا ثمر له كما يتطوع صاحب الشاة أو الإبل بالمنيحة وهي عطية اللبن دون الرقبة ، ويقال : عريت النخلة بفتح العين وكسر الراء تعرى إذا أفردت عن حكم أخواتها بأن أعطاها المالك فقيرا قال مالك : العرية أن يعري الرجل الرجل النخلة أي : يهبها له أو يهب له ثمرها ثم يتأذى بدخوله عليه ويرخص الموهوب له للواهب أن يشتري رطبها منه بتمر يابس هكذا علقه البخاري عن مالك ، ووصله ابن عبد البر من رواية ابن وهب .

وروى الطحاوي عن مالك [ ص: 238 ] أن العرية النخلة للرجل في حائط غيره فيكره صاحب النخل الكثير دخول الآخر عليه فيقول أنا أعطيك بخرص نخلتك تمرا فيرخص له في ذلك فشرط العرية عند مالك أن يكون لأجل التضرر من المالك بدخول غيره إلى حائطه ، أو لدفع الضرر عن الآخر لقيام صاحب النخل بما يحتاج إليه . وقال الشافعي في الأم وحكاه عنه البيهقي إن العرايا أن يشتري الرجل ثمر النخلة بخرصه من التمر بشرط التقابض في الحال ، واشترط مالك أن يكون التمر مؤجلا ، وقال ابن إسحاق في حديثه عن ابن عمر عند أبي داود والبخاري تعليقا أن يعري الرجل الرجل أي : يهب له في ماله النخلة والنخلتين ، فيشق عليه أن يقوم عليها فيبيعها ، بمثل خرصها وأخرج الإمام أحمد عن سفيان بن حسين أن العرايا نخل كانت توهب للمساكين فلا يستطيعون أن ينتظروا بها فرخص لهم أن يبيعوها بما شاءوا من التمر ، وقال يحيى بن سعيد الأنصاري : العرية أن يشتري الرجل ثمر النخلات لطعام أهله رطبا بخرصها تمرا قال القرطبي : كأن الشافعي اعتمد في تفسير العرية على قول يحيى بن سعيد وأخرج أبو داود عن عبد ربه بن سعيد الأنصاري وهو أخو يحيى المذكور أنه قال : العرية الرجل يعري الرجل النخلة أو الرجل يستثني من ماله النخلة يأكلها فيبيعها تمرا وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن وكيع قال : سمعنا في تفسير العرية أنها : النخلة يعريها الرجل للرجل ويشتريها في بستان الرجل ، وقال في القاموس : وأعراه النخلة وهبه ثمرة عامها والعرية النخلة المعراة ، والتي أكل ما عليها .

قال الجوهري : هي النخلة التي يعريها صاحبها رجلا محتاجا بأن يجعل له ثمرها عاما من عراه إذا قصده قال في الفتح : صور العرية كثيرة : منها : أن يقول الرجل لصاحب النخل بعني ثمر نخلات بأعيانها بخرصها من التمر فيخرصها ويبيعها ويقبض منه التمر ويسلم له النخلات بالتخلية فينتفع برطبها ، ومنها : أن يهب صاحب الحائط لرجل نخلات أو ثمر نخلات معلومة من حائطه ثم يتضرر بدخوله عليه فيخرصها ويشتري رطبها بقدر خرصه بثمر معجل ، ومنها أن يهبه إياها فيتضرر الموهوب له بانتظار صيرورة الرطب تمرا ولا يحب أكلها رطبا لاحتياجه إلى التمر فيبيع ذلك الرطب بخرصه من الواهب أو من غيره بتمر يأخذه معجلا .

ومنها أن يبيع الرجل ثمر حائطه بعد بدو صلاحه ويستثني منه نخلات معلومة يبقيها لنفسه أو لعياله وهي التي عفي له عن خرصها في الصدقة وسميت عرايا ; لأنها أعريت عن أن تخرص في الصدقة فرخص لأهل الحاجة الذين لا نقد لهم وعندهم فضول من تمر قوتهم أن يبتاعوا بذلك التمر من رطب تلك النخلات بخرصها ، ومما يطلق عليه اسم العرية أن يعري رجلا ثمر نخلات يبيح له أكلها والتصرف فيها وهذه هبة محضة ، ومنها : أن يعري عامل الصدقة لصاحب الحائط من حائطه نخلات معلومة بخرصها في الصدقة وهاتان الصورتان من العرايا [ ص: 239 ] لا بيع فيهما ، وجميع هذه الصور صحيحة عند الشافعي والجمهور وقصر مالك العرية في البيع على الصورة الثانية وقصرها أبو عبيد على الصورة الأخيرة من صور البيع وأراد به : رخص لهم أن يأكلوا الرطب ولا يشترونه لتجارة ولا ادخار ، ومنع أبو حنيفة صور البيع كلها وقصر العرية على الهبة وهي أن يعري الرجل الرجل ثمر نخلة من نخله ولا يسلم ذلك ثم يبدو له أن يرتجع تلك الهبة فرخص له أن يحتبس ذلك ويعطيه بقدر ما وهبه له من الرطب بخرصه تمرا .

وحمله على ذلك أخذه بعموم النهي عن بيع التمر بالتمر ، وتعقب بالتصريح باستثناء العرايا في الأحاديث . قال ابن المنذر : الذي رخص في العرية هو الذي نهى عن بيع التمر بالتمر في لفظ واحد من رواية جماعة من الصحابة . قال : ونظير ذلك الإذن في السلم مع قوله صلى الله عليه وسلم { لا تبع ما ليس عندك } قال : ولو كان المراد الهبة ما استثنيت العرية من البيع ; ولأنه عبر بالرخصة ، والرخصة لا تكون إلا في شيء ممنوع ، والمنع إنما كان في البيع لا الهبة وبأنها قيدت بخمسة أوسق والهبة لا تتقيد ، وقد احتج أصحاب أبي حنيفة لمذهبه بأشياء تدل على أن العرية العطية ولا حجة في شيء منه ; لأنه لا يلزم من كون أصل العرية العطية أن لا تطلق شرعا على صور أخرى . وقالت الهادوية وهو وجه في مذهب الشافعي أن رخصة العرايا مختصة بالمحاويج الذين لا يجدون رطبا فيجوز لهم أن يشتروا منه بخرصه تمرا ، واستدلوا بما أخرجه الشافعي في مختلف الحديث عن زيد بن ثابت أنه سمى رجالا محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نقد في أيديهم يبتاعون به رطبا ويأكلون مع الناس وعندهم فضول قوتهم من التمر ، فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر ، ويجاب عن دعوى اختصاص العرايا بهذه الصورة ، أما أولا فبالقدح في هذا الحديث فإنه أنكره محمد بن داود الظاهري على الشافعي وقال ابن حزم : لم يذكر الشافعي له إسنادا فبطل ، وأما ثانيا : فعلى تسليم صحته لا منافاة بينه وبين الأحاديث الدالة على أن العرية أعم من الصورة التي اشتمل عليها ، والحاصل أن كل صورة من صور العرايا ورد بها حديث صحيح أو ثبتت عن أهل الشرع أو أهل اللغة فهي جائزة لدخولها تحت مطلق الإذن ، والتنصيص في بعض الأحاديث على بعض الصور لا ينافي ما ثبت في غيره .

قوله : ( بخرصه ) بفتح الخاء المعجمة ، وأشار ابن التين إلى جواز كسرها وجزم ابن العربي بالكسر ، وأنكر الفتح وجوزهما النووي وقال : الفتح أشهر قال : ومعناه بقدر ما فيه إذا صار تمرا ، فمن فتح قال : هو اسم الفعل ومن كسر قال : هو اسم للشيء المخروص قال في الفتح : والخرص هو التخمين والحدس . قوله : ( يقول الوسق والوسقين . . . إلخ ) استدل بهذا من قال : إنه لا يجوز في بيع العرايا إلا دون خمسة أوسق ، وهم الشافعية والحنابلة وأهل الظاهر قالوا : لأن [ ص: 240 ] الأصل التحريم ، وبيع العرايا رخصة ، فيؤخذ بما يتحقق فيه الجواز ويلقى ما وقع فيه الشك ، ولكن مقتضى الاستدلال بهذا الحديث أن لا يجوز مجاوزة الأربعة الأوسق ، مع أنهم يجوزونها إلى دون الخمسة بمقدار يسير ، والذي يدل على ما ذهبوا إليه حديث أبي هريرة الذي ذكرناه لقوله فيه { فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق } فيلقى الشك وهو الخمسة ويعمل بالمتيقن وهو ما دونها وقد حكى هذا القول صاحب البحر عن أبي حنيفة ومالك والقاسم وأبي العباس وقد عرفت ما سلف من تحقيق مذهب أبي حنيفة في العرايا .

وحكى في الفتح أن الراجح عند المالكية الجواز في الخمسة عملا برواية الشك ، واحتج لهم بقول سهل بن أبي حثمة : إن العرية ثلاثة أوسق أو أربعة أو خمسة ، قال في الفتح : ولا حجة فيه ; لأنه موقوف وحكى الماوردي عن ابن المنذر أنه ذهب إلى تحديد ذلك بالأربعة الأوسق ، وتعقبه الحافظ بأن ذلك لم يوجد في شيء من كتب ابن المنذر ، وقد حكى هذا المذهب ابن عبد البر عن قوم ، وهو ذهاب إلى ما فيه حديث جابر من الاقتصار على الأربعة ، وقد ترجم عليه ابن حبان : الاحتياط لا يزيد على أربعة أوسق . قال الحافظ : وهذا الذي قاله يتعين المصير إليه ، وأما جعله حدا لا يجوز تجاوزه فليس بالواضح ا هـ ، وذلك ; لأن دون الخمسة المذكورة في حديث أبي هريرة تقتضي بجواز الزيادة على الأربعة إلا أن يجعل الدون مجملا مبينا بالأربعة كان واضحا ، ولكنه لا يخفى أنه لا إجمال في قوله " دون خمسة أوسق " ; لأنها تتناول ما صدق عليه الدون لغة ، وما كان كذلك لا يقال له مجمل ، ومفهوم العدد في الأربعة لا يعارض المنطوق الدال على جواز الزيادة عليها .

قوله : ( ولم يرخص في غير ذلك ) فيه دليل على أنه لا يجوز شراء الرطب على رءوس النخل بغير التمر والرطب ، وفيه أيضا دليل على جواز الرطب المخروص على رءوس النخل بالرطب المخروص على الأرض ، وهو رأي بعض الشافعية منهم ابن خيران وقيل : لا يجوز وهو رأي الإصطخري منهم وصححه جماعة . وقيل : إن كانا نوعا واحدا لم يجز إذ لا حاجة إليه ، وإن كانا نوعين جاز وهو رأي أبي إسحاق ، وصححه ابن أبي عصرون ، وهذا كله فيما إذا كان أحدهما على النخل والآخر على الأرض ، وأما في غير ذلك فقد قدمنا الكلام عليه في الباب الذي قبل هذا .

التالي السابق


الخدمات العلمية