صفحة جزء
باب مسح الرأس كله وصفته وما جاء في مسح بعضه

188 - ( عن عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر ، بمقدم رأسه ، ثم ذهب بهما إلى قفاه ، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه . } رواه الجماعة ) .


قوله : ( مسح رأسه ) زاد ابن الصباغ كله وكذا في رواية ابن خزيمة . قوله : ( فأقبل بهما وأدبر ) قد اختلف في كيفية الإقبال والإدبار المذكور في الحديث فقيل : يبدأ بمقدم الرأس الذي يلي الوجه ، ويذهب بهما إلى القفا ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه وهو مبتدأ الشعر ويؤيد هذا قوله : بدأ بمقدم رأسه إلا أنه يشكل على هذه الصفة قوله : ( فأقبل بهما وأدبر ) لأن الواقع فيها بالعكس وهو أنه أدبر بهما وأقبل لأن الذهاب إلى جهة القفا إدبار .

وأجيب بأن الواو لا تقتضي الترتيب ، والدليل على ذلك ما ثبت عند البخاري من رواية عبد الله بن زيد بلفظ : ( فأدبر بيديه وأقبل ) ومخرج الطريقين متحد فهما بمعنى واحد . وأجيب أيضا بحمل قوله : أقبل على البداءة بالقبل ، وقوله : أدبر على البداءة بالدبر ، فيكون من تسمية الفعل بابتدائه وهو أحد القولين لأهل الأصول في تسمية الفعل ، هل يكون بابتدائه أو بانتهائه ، قاله ابن سيد الناس في شرح الترمذي . وقد أجيب بغير ذلك ، وقيل : يبدأ بمؤخر رأسه . ويمر إلى جهة الوجه ، ثم يرجع إلى المؤخر محافظة على قوله : أقبل وأدبر ، ولكنه يعارضه قوله : بدأ بمقدم رأسه .

وقيل : يبدأ بالناصية ويذهب إلى ناحية الوجه ، ثم يذهب إلى جهة مؤخر الرأس ، ثم يعود إلى ما بدأ منه وهو الناصية .

وفي هذه الصفة محافظة على قوله : ( بدأ بمقدم رأسه ) وعلى قوله : ( أقبل وأدبر ) فإن الناصية مقدم الرأس ، والذهاب إلى ناحية الوجه إقبال . والحديث يدل على مشروعية مسح جميع الرأس ، وهو مستحب باتفاق العلماء ، قاله النووي ، وعلل ذلك بأنه طريق إلى استيعاب الرأس ووصول الماء إلى جميع شعره . وقد ذهب إلى وجوبه أكثر العترة ومالك [ ص: 197 ] والمزني والجبائي وإحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل وابن علية وقال الشافعي : يجزي مسح بعض الرأس ولم يحده بحد ، قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي : وهو قول الطبري .

وقال أبو حنيفة : الواجب الربع ، وقال الثوري والأوزاعي والليث : يجزي مسح بعض الرأس ويمسح المقدم وهو قول أحمد وزيد بن علي والناصر والباقر والصادق . وأجاز الثوري والشافعي مسح الرأس بأصبع واحدة . واختلفت الظاهرية فمنهم من أوجب الاستيعاب ، ومنهم من قال : يكفي البعض . احتج الأولون بحديث الباب . وحديث { أنه مسح برأسه حتى بلغ القذال } عند أحمد وأبي داود من حديث طلحة بن مصرف ، ورد بأن الفعل بمجرده لا يدل على الوجوب ، وفي حديث طلحة بن مصرف مقال سيأتي تحقيقه .

قالوا : قال الله تعالى { وامسحوا برءوسكم } والرأس حقيقة اسم لجميعه والبعض مجاز . ورد بأن الباء للتبعيض . وأجيب بأنه لم يثبت كونها للتبعيض ، وقد أنكره سيبويه في خمسة عشر موضعا من كتابه . ورد أيضا بأن الباء تدخل في الآلة ، والمعلوم أن الآلة لا يراد استيعابها كمسحت رأسي بالمنديل ، فلما دخلت الباء في الممسوح كان ذلك الحكم أعني عدم الاستيعاب في الممسوح أيضا ، قاله التفتازاني ، قالوا : جعله جار الله مطلقا ، وحكم على المطلق بأنه مجمل وبينه النبي صلى الله عليه وسلم بالاستيعاب ، وبيان المجمل الواجب واجب .

ورد بأن المطلق ليس بمجمل لصدقه على الكل والبعض ، فيكون الواجب مطلق المسح كلا أو بعضا وأيا ما كان وقع به الامتثال . ولو سلم أنه مجمل لم يتعين مسح الكل لورود البيان بالبعض عند أبي داود من حديث أنس بلفظ : { إنه صلى الله عليه وسلم أدخل يده من تحت العمامة ، فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة } وعند مسلم وأبي داود والترمذي من حديث المغيرة بلفظ : { إنه صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة } قالوا : قال ابن القيم : ( إنه لم يصح عنه صلى الله عليه وسلم في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض رأسه ألبتة ، ولكن كان إذا مسح بناصيته أكمل على العمامة ) قال : وأما حديث أنس فمقصود أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقض عمامته حتى يستوعب مس الشعر كله ولم ينف التكميل على العمامة ، وقد أثبته حديث المغيرة ، فسكوت أنس عنه لا يدل على نفيه . وأيضا قال الحافظ : إن حديث أنس في إسناده نظر .

وأجيب بأن النزاع في الوجوب وأحاديث التعميم ، وإن كانت أصح وفيها زيادة وهي مقبولة ، لكن أين دليل الوجوب ؟ وليس إلا مجرد أفعال ، ورد بأنها وقعت بيانا للمجمل فأفادت الوجوب . والإنصاف أن الآية ليست من قبيل المجمل وإن زعم ذلك الزمخشري وابن الحاجب في مختصره والزركشي ، والحقيقة لا تتوقف على مباشرة آلة الفعل بجميع أجزاء المفعول كما لا يتوقف في قولك : ضربت عمرا على مباشرة الضرب لجميع أجزائه ، فمسح رأسه يوجد المعنى الحقيقي بوجود مجرد [ ص: 198 ] المسح للكل أو البعض ، وليس النزاع في مسمى الرأس فيقال : هو حقيقة في جميعه ، بل النزاع في إيقاع المسح على الرأس ، والمعنى الحقيقي للإيقاع يوجد بوجود المباشرة ولو كانت المباشرة الحقيقية لا توجد إلا بمباشرة الحال لجميع المحل لقل وجود الحقائق في هذا الباب ، بل يكاد يلحق بالعدم فإنه يستلزم أن نحو ضربت زيدا وأبصرت عمرا من المجاز لعدم عموم الضرب والرؤية ، وقد زعمه ابن جني منه وأورد مستدلا به على كثرة المجاز ، والحاصل أن الوقوع لا يتوقف وجود معناه الحقيقي على وجود المعنى الحقيقي لما وقع عليه الفعل ، وهذا هو منشأ الاشتباه والاختلاف ، فمن نظر إلى جانب ما وقع عليه الفعل جزم بالمجاز ، ومن نظر إلى جانب الوقوع جزم بالحقيقة ، وبعد هذا فلا شك في أولوية استيعاب المسح لجميع الرأس ، وصحة أحاديثه ولكن دون الجزم بالوجوب مفاوز وعقبات .

189 - ( وعن الربيع بنت معوذ { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ عندها ومسح برأسه فمسح الرأس كله من فوق الشعر كل ناحية لمنصب الشعر لا يحرك الشعر عن هيئته . } رواه أحمد وأبو داود ، وفي لفظ : { مسح برأسه مرتين بدأ بمؤخره ثم بمقدمه وبأذنيه كلتيهما ظهورهما وبطونهما . } رواه أبو داود والترمذي وقالا : حديث حسن ) . هذه الروايات مدارها على ابن عقيل ، وفيه مقال مشهور لا سيما إذا عنعن ، وقد فعل ذلك في جميعها .

وأخرج هذا الحديث أحمد بلفظ : { إن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ عندها قالت : فرأيته مسح على رأسه مجاري الشعر ما أقبل منه وما أدبر ، ومسح صدغيه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما } وأخرجه بلفظ أحمد أبو داود أيضا في رواية ، وأخرجه ابن ماجه والبيهقي ، ومدار الكل على ابن عقيل ، والرواية الأولى من حديث الباب تدل على أنه مسح مقدم رأسه مسحا مستقلا ، ومؤخره كذلك ، لأن المسح مرة واحدة لا بد فيه . من تحريك شعر أحد الجانبين ، ووقع في نسخة من الكتاب مكان فوق فرق ، وفي سنن أبي داود ( ثلاث نسخ هاتان والثالثة قرن )

والرواية الثانية من حديث الباب تدل على أن المسح مرتان ، وسيأتي الكلام عليه في الباب الذي بعد هذا ، وتدل على البداءة بمؤخر الرأس ، وقد تقدم الكلام على الخلاف في صفته في حديث أول الباب ، قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي : وهذه الرواية محمولة على الرواية بالمعنى عند من يسمي الفعل بما ينتهي إليه كأنه حمل قوله : ما أقبل وما أدبر على الابتداء بمؤخر الرأس فأداها بمعناها [ ص: 199 ] عنده وإن لم يكن كذلك ، قال : ذكر معناه ابن العربي ، ويمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا لبيان الجواز مرة ، وكانت مواظبته على البداءة بمقدم الرأس ، وما كان أكثر مواظبة عليه كان أفضل ، والبداءة بمؤخر الرأس محكية عن الحسن بن حيي ووكيع بن الجراح ، قال أبو عمر بن عبد البر : قد توهم بعض الناس في حديث عبد الله بن زيد في قوله : ثم مسح رأسه بيديه ، فأقبل بهما وأدبر ، أنه بدأ بمؤخر رأسه ، وتوهم غيره أنه بدأ من وسط رأسه فأقبل بيديه وأدبر ، وهذه ظنون لا تصح .

وقد روي عن ابن عمر أنه كان يبدأ من وسط رأسه ، ولا يصح . وأصح حديث في هذا الباب حديث عبد الله بن زيد . والمشهور المتداول الذي عليه الجمهور البداءة من مقدم الرأس إلى مؤخره انتهى .

قوله : ( كل ناحية لمنصب الشعر ) المراد بالناحية جهة مقدم الرأس وجهة مؤخره أي مسح الشعر من ناحية انصبابه . والمنصب بضم الميم وتشديد الباء الموحدة آخره .

قوله : ( لا يحرك الشعر عن هيئته ) أي التي هو عليها قال ابن رسلان : وهذه الكيفية مخصوصة بمن له شعر طويل إذا رد يده عليه ليصل الماء إلى أصوله ينتفش ، ويتضرر صاحبه بانتفاشه وانتشار بعضه ، ولا بأس بهذه الكيفية للمحرم فإنه يلزمه الفدية بانتشار شعره وسقوطه .

وروي عن أحمد أنه سئل كيف تمسح المرأة ومن له شعر طويل كشعرها ؟ فقال : إن شاء مسح كما روي عن الربيع ، وذكر الحديث ثم قال : هكذا ووضع يده على وسط رأسه ثم جرها إلى مقدمه ثم رفعها فوضعها حيث بدأ منه ، ثم جرها إلى مؤخره .

190 - وعن أنس قال : { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية فأدخل يده تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة . } رواه أبو داود . الحديث قال الحافظ : في إسناده نظر انتهى . وذلك لأن أبا معقل الراوي عن أنس مجهول ، وبقية إسناده رجال الصحيح .

وأورده المصنف ههنا للاستدلال به على الاكتفاء بمسح بعض الرأس ، وقد تقدم الكلام عليه في أول الباب . قوله : ( قطرية ) بكسر القاف وسكون الطاء ويروى بفتحهما ، وهي نوع من البرود فيها حمرة ، وقيل : هي حلل تحمل من البحرين - موضع قرب عمان - قال الأزهري : ويقال لتلك القرية : قطر بفتح القاف والطاء ، فلما دخلت عليها ياء النسبة كسروا القاف وخففوا الطاء .

قوله : ( فأدخل يده ) لفظ أبي داود فأدخل يديه ، قال ابن رسلان : وفيه فضيلة مسح الرأس بالكفين جميعا . قوله : ( فمسح مقدم رأسه ) قال ابن حجر : فيه دليل على الاجتزاء بالمسح على الناصية ، وقد نقل عن سلمة بن الأكوع أنه كان يمسح مقدم رأسه وابن عمر مسح اليافوخ .

التالي السابق


الخدمات العلمية