صفحة جزء
باب ما جاء في كلام الهازل والمكره والسكران بالطلاق وغيره 2861 - ( عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ثلاث جدهن جد ، وهزلهن جد : النكاح ، والطلاق ، والرجعة } رواه الخمسة إلا النسائي ، وقال الترمذي : حديث حسن غريب ) .


الحديث أخرجه أيضا الحاكم وصححه ، وأخرجه الدارقطني وفي إسناده عبد الرحمن بن حبيب بن أردك وهو مختلف فيه . قال النسائي : منكر الحديث ، ووثقه غيره . قال الحافظ : فهو على هذا حسن .

وفي الباب عن فضالة بن عبيد عند الطبراني بلفظ : { ثلاث لا يجوز فيهن اللعب : الطلاق ، والنكاح ، والعتق } وفي إسناده ابن لهيعة .

وعن عبادة بن الصامت عن الحارث بن أبي أسامة في مسنده رفعه بلفظ : { لا يجوز اللعب فيهن : الطلاق ، والنكاح والعتاق ، فمن قالهن فقد وجبن } وإسناده منقطع .

وعن أبي ذر عند عبد الرزاق رفعه { من طلق وهو لاعب فطلاقه جائز ، ومن أعتق وهو لاعب فعتقه جائز ، ومن نكح وهو لاعب فنكاحه جائز } وفي إسناده انقطاع أيضا .

وعن علي موقوفا عند عبد الرزاق أيضا . وعن عمر موقوفا عنده أيضا

والحديث يدل على أن من تلفظ هازلا بلفظ نكاح أو طلاق أو رجعة أو عتاق كما في الأحاديث التي ذكرناها وقع منه ذلك . أما في الطلاق فقد قال بذلك الشافعية والحنفية وغيرهم ، وخالف في ذلك أحمد ومالك فقالا : إنه يفتقر اللفظ الصريح إلى النية ، وبه قال جماعة من الأئمة منهم الصادق والباقر والناصر . واستدلوا بقوله تعالى : { وإن عزموا الطلاق } فدلت على اعتبار العزم والهازل لا عزم منه . وأجاب صاحب البحر بالجمع بين الآية والحديث فقال : يعتبر العزم في غير الصريح لا في الصريح فلا يعتبر . والاستدلال بالآية على تلك الدعوى غير صحيح من أصله فلا يحتاج إلى الجمع فإنها نزلت في حق المولى

2862 - ( وعن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { لا طلاق ، ولا عتاق في إغلاق } رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه ) .

2863 - ( وفي حديث بريدة في قصة ماعز أنه قال : { يا رسول الله طهرني ، قال : [ ص: 279 ] مم أطهرك ؟ قال : من الزنى ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبه جنون ؟ فأخبر أنه ليس بمجنون ، فقال : أشرب خمرا ؟ فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أزنيت ؟ قال : نعم ، فأمر به فرجم } . رواه مسلم والترمذي وصححه .

وقال عثمان : ليس لمجنون ولا لسكران طلاق . وقال ابن عباس : طلاق السكران والمستكره ليس بجائز . وقال ابن عباس فيمن يكرهه اللصوص فيطلق : فليس بشيء . وقال علي : كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه ، ذكرهن البخاري في صحيحه ) .

2864 - ( وعن قدامة بن إبراهيم : أن رجلا على عهد عمر بن الخطاب تدلى يشتار عسلا ، فأقبلت امرأته فجلست على الحبل ، فقالت : ليطلقها ثلاثا وإلا قطعت الحبل ، فذكرها الله والإسلام فأبت ، فطلقها ثلاثا ، ثم خرج إلى عمر فذكر ذلك له ، فقال : ارجع إلى أهلك فليس هذا بطلاق . رواه سعيد بن منصور وأبو عبيد القاسم بن سلام ) . حديث عائشة أخرجه أيضا أبو يعلى والحاكم والبيهقي وصححه الحاكم ، وفي إسناده محمد بن عبيد بن أبي صالح . قد ضعفه أبو حاتم الرازي . ورواه البيهقي من طريق ليس هو فيها لكن لم يذكر عائشة ، وزاد أبو داود وغيره { ولا عتاق }

قوله : ( في إغلاق ) بكسر الهمزة وسكون الغين المعجمة وآخره قاف ، فسره علماء الغريب بالإكراه ، روي ذلك في التلخيص عن ابن قتيبة والخطابي وابن السيد وغيرهم . وقيل : الجنون ، واستبعده المطرزي . وقيل : الغضب وقع ذلك في سنن أبي داود وفي رواية ابن الأعرابي وكذا فسره أحمد ، ورده ابن السيد فقال : لو كان كذلك لم يقع على أحد طلاق لأن أحدا لا يطلق حتى يغضب . وقال أبو عبيدة : الإغلاق : التضييق

وقد استدل بهذا الحديث من قال : إنه لا يصح طلاق المكره وبه قال جماعة من أهل العلم ، حكي ذلك في البحر عن علي وعمر وابن عباس وابن عمر والزبير والحسن البصري وعطاء ومجاهد وطاوس وشريح والأوزاعي والحسن بن صالح والقاسمية والناصر والمؤيد بالله ومالك والشافعي . وحكي أيضا وقوع طلاق المكره عن النخعي وابن المسيب والثوري وعمر بن عبد العزيز وأبي حنيفة وأصحابه ، والظاهر ما ذهب إليه الأولون في الباب ويؤيد ذلك حديث { رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } أخرجه ابن ماجه وابن حبان والدارقطني والطبراني والحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس وحسنه النووي ، وقد أطال الكلام عليه الحافظ في باب [ ص: 280 ] شروط الصلاة من التلخيص ، فليراجع .

واحتج عطاء بقوله تعالى : { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } وقال : الشرك أعظم من الطلاق ، أخرجه سعيد بن منصور عنه بإسناد صحيح .

قوله : ( أبه جنون ) لفظ البخاري : { أبك جنون } وهذا طرف من حديث يأتي إن شاء الله تعالى في الحدود .

وفيه دليل على أن الإقرار من المجنون لا يصح ، وكذلك سائر التصرفات والإنشاءات ، ولا أحفظ في ذلك خلافا .

قوله : ( فقال : أشرب خمرا ) فيه دليل أيضا على أن إقرار السكران لا يصح ، وكأن المصنف رحمه الله تعالىقاس طلاق السكران على إقراره . وقد اختلف أهل العلم في ذلك ، فأخرج ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة عدم وقوع طلاق السكران عن أبي الشعثاء وعطاء وطاوس وعكرمة والقاسم بن محمد وعمر بن عبد العزيز . قال في الفتح : وبه قال ربيعة والليث وإسحاق والمزني واختاره الطحاوي بأنهم أجمعوا على أن طلاق المعتوه لا يقع ، قال : والسكران معتوه بسكر وقال بوقوعه طائفة من التابعين كسعيد بن المسيب والحسن وإبراهيم والزهري والشعبي وبه قال الأوزاعي والثوري ومالك وأبو حنيفة ، وعن الشافعي قولان : المصحح منهما وقوعه والخلاف عند الحنابلة

وقد حكي القول بالوقوع في البحر : عن علي وابن عباس وابن عمر ومجاهد والضحاك وسليمان بن يسار وزيد بن علي والهادي والمؤيد بالله . وحكي القول بعدم الوقوع عن عثمان وجابر بن زيد ورواية عن ابن عباس والناصر وأبي طالب والبتي وداود . واحتج القائلون بالوقوع بقوله تعالى : { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } ونهيهم حال السكر عن قربان الصلاة يقتضي عدم زوال التكليف ، وكل مكلف يصح منه الطلاق وغيره من العقود والإنشاءات . وأجيب بأن النهي في الآية المذكورة إنما هو عن أصل السكر الذي يلزم منه قربان الصلاة كذلك

وقيل : إنه نهي للثمل الذي يعقل الخطاب ، وأيضا قوله في آخر الآية : { حتى تعلموا ما تقولون } دليل على أن السكران يقول ما لا يعلم ، ومن كان كذلك فكيف يكون مكلفا وهو غير فاهم ، والفهم شرط التكليف كما تقرر في الأصول . واحتجوا ثانيا بأنه عاص بفعله فلا يزول عنه الخطاب بالسكر ولا الإثم لأنه يؤمر بقضاء الصلوات وغيرها مما وجب عليه قبل وقوعه في السكر . وأجاب الطحاوي بأنها لا تختلف أحكام فاقد العقل بين أن يكون ذهاب عقله بسبب من جهته أو من جهة غيره ، إذ لا فرق بين من عجز عن القيام في الصلاة بسبب من قبل الله أو من قبل نفسه كمن كسر رجل نفسه فإنه يسقط عنه فرض القيام ، وتعقب بأن القيام انتقل إلى بدل وهو القعود فافترقا

وأجاب ابن المنذر عن الاحتجاج بقضاء الصلوات بأن النائم يجب عليه قضاء الصلاة ، ولا يقع طلاقه لأنه غير مكلف حال نومه بلا نزاع . واحتجوا ثالثا بأن ربط الأحكام بأسبابها [ ص: 281 ] أصل من الأصول المأنوسة في الشريعة ، والتطليق سبب للطلاق ، فينبغي ترتيبه عليه وربطه به وعدم الاعتداد بالسكر كما في الجنايات . وأجيب بالاستفسار عن السبب للطلاق : هل هو إيقاع لفظه مطلقا ؟ إن قلتم : نعم ، لزمكم أن يقع من المجنون والنائم والسكران الذي لم يعص بسكره إذا وقع من أحدهم لفظ الطلاق ، وإن قلتم : إنه إيقاع اللفظ من العاقل الذي يفهم ما يقول فالسكران غير عاقل ولا فاهم فلا يكون إيقاع لفظ الطلاق منه سببا . واحتجوا رابعا بأن الصحابة رضي الله عنهم جعلوه كالصاحي

ويجاب بأن ذلك محل خلاف بين الصحابة كما بينا ذلك في أول الكلام وكما ذكره المصنف عن عثمان وابن عباس فلا يكون قول بعضهم حجة علينا كما لا يكون حجة على بعضهم بعضا . واحتجوا خامسا بأن عدم وقوع الطلاق من السكران مخالف للمقاصد الشرعية ; لأنه إذا فعل حراما واحدا لزمه حكمه ، فإذا تضاعف جرمه بالسكر وفعل المحرم الآخر سقط عنه الحكم . مثلا لو أنه ارتد بغير سكر لزمه حكم الردة ، فإذا جمع بين السكر والردة لم يلزمه حكم الردة لأجل السكر . ويجاب بأنا لم نسقط عنه حكم المعصية الواقعة منه حال السكر لنفس فعله للمحرم الآخر وهو السكر ، فإن ذلك مما لا يقول به عاقل ، وإنما أسقطنا حكم المعصية لعدم مناط التكليف وهو العقل . وبيان ذلك أنه لو شرب الخمر ولم يزل عقله كان حكمه حكم الصاحي فلم يكن فعله لمعصية الشرب وهو المسقط

ومن الأدلة الدالة على عدم الوقوع ما في صحيح البخاري وغيره { أن حمزة سكر وقال : للنبي صلى الله عليه وسلم لما دخل عليه هو وعلي : وهل أنتم إلا عبيد لأبي ؟ } في قصة مشهورة ، فتركه صلى الله عليه وسلم وخرج ولم يلزمه حكم تلك الكلمة مع أنه لو قالها غير سكران لكان كفرا كما قال ابن القيم . وأجيب بأن الخمر كانت إذ ذاك مباحة ، والخلاف إنما هو بعد تحريمها . وحكى الحافظ في الفتح عن ابن بطال أنه قال : الأصل في السكران العقل ، والسكر شيء طرأ على عقله ، فمهما وقع منه من كلام مفهوم فهو محمول على الأصل حتى يثبت فقدان عقله ا هـ . والحاصل أن السكران الذي لا يعقل لا حكم لطلاقه لعدم المناط الذي تدور عليه الأحكام ، وقد عين الشارع عقوبته فليس لنا أن نجاوزها برأينا ونقول : يقع طلاقه عقوبة له فيجمع له بين غرمين . لا يقال : إن ألفاظ الطلاق ليس من الأحكام التكليفية بل من الأحكام الوضعية ، وأحكام الوضع لا يشترط فيها التكليف

لأنا نقول : الأحكام الوضعية تقيد بالشروط كما تقيد الأحكام التكليفية . وأيضا السبب الوضعي هو طلاق العاقل لا مطلق الطلاق بالاتفاق وإلا لزم وقوع طلاق المجنون . قوله : ( وقال عثمان . . . إلخ ) علقه البخاري ووصله ابن أبي شيبة . قوله : ( وقال ابن عباس . . . إلخ ) وصله ابن أبي شيبة [ ص: 282 ] أيضا وسعيد بن منصور . وأثر علي وصله البغوي في الجعديات وسعيد بن منصور . وقد ساق البخاري في صحيحه آثارا عن جماعة من الصحابة والتابعين . وأثر عمر بن الخطاب في قصة الرجل الذي تدلى ليشتار عسلا إسناده منقطع ; لأن الراوي له عن عمر عبد الملك بن قدامة بن محمد بن إبراهيم بن حاطب الجمحي عن أبيه قدامة ، وقدامة لم يدرك عمر

وقد روي ما يعارضها ، أخرج العقيلي من حديث صفوان بن عمران الطائي { أن امرأة أخذت المدية ووضعتها على نحر زوجها وقالت : إن لم تطلقني نحرتك بهذه ، فطلقها ، ثم استقال النبي صلى الله عليه وسلم الطلاق ، فقال صلى الله عليه وسلم : لا قيلولة في الطلاق } وقد تفرد به صفوان وحمله بعضهم على من نوى الطلاق

التالي السابق


الخدمات العلمية