صفحة جزء
باب من حرم زوجته أو أمته 2898 - ( عن ابن عباس قال { : إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها وقال : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } } متفق عليه .

وفي لفظ : أنه أتاه رجل فقال : إني جعلت امرأتي علي حراما ، فقال : كذبت ، ليست عليك بحرام ، ثم تلا : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } عليك أغلظ الكفارة عتق رقبة . رواه النسائي ) .

2899 - ( وعن ثابت عن أنس : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها ، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه ، فأنزل الله عز وجل : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } إلى آخر الآية } . رواه النسائي ) .


الرواية الثانية من حديث ابن عباس أخرجها ابن مردويه من طريق سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عنه . وحديث أنس قال الحافظ : سنده صحيح وهو أصح طرق سبب نزول الآية ، وله شاهد مرسل عن الطبراني بسند صحيح عن زيد بن أسلم التابعي المشهور قال : { أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أم إبراهيم ولده في بيت بعض نسائه ، فقالت : يا رسول الله في بيتي وعلى فراشي ؟ فجعلها عليه حراما ، فقالت : يا رسول الله كيف تحرم عليك الحلال ؟ فحلف لها بالله لا يصيبها ، فنزلت : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله [ ص: 313 ] لك } } .

وفي الباب عن عائشة عند الترمذي وابن ماجه بسند رجاله ثقات قالت { آلى النبي صلى الله عليه وسلم وحرم فجعل الحرام حلالا ، وجعل في اليمين كفارة } وقد تقدم في كتاب الإيلاء . وعن ابن عباس غير حديث هذا الباب عند البيهقي بسند صحيح عن يوسف بن ماهك أن أعرابيا أتى ابن عباس فقال : إني جعلت امرأتي حراما ، قال : ليست ، عليك بحرام ، قال : أرأيت قول الله تعالى { كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه } الآية ، فقال ابن عباس : إن إسرائيل كان به عرق الإنسي فجعل على نفسه إن شفاه الله أن لا يأكل العروق من كل شيء وليست بحرام على هذه الأمة "

وقد اختلف العلماء فيمن حرم على نفسه شيئا ، فإن كانت الزوجة فقد اختلف فيه أيضا على أقوال بلغها القرطبي المفسر إلى ثمانية عشر قولا . قال الحافظ : وزاد غيره عليها .

وفي مذهب مالك فيها تفاصيل يطول استيفاؤها . قال القرطبي : قال بعض علمائنا : سبب الاختلاف أنه لم يقع في القرآن صريحا ولا في السنة نص ظاهر صحيح يعتمد عليه في حكم هذه المسألة ، فتجاذبها العلماء ، فمن تمسك بالبراءة قال : لا يلزمه شيء ، ومن قال : إنها يمين ، أخذ بظاهر قوله تعالى: { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } بعد قوله : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } ومن قال : تجب الكفارة وليست بيمين بناه على أن معناه معنى اليمين فوقعت الكفارة على المعنى . ومن قال : يقع به طلقة رجعية حمل اللفظ على أقل وجوهه الظاهرة وأقل ما تحرم به المرأة طلقة ما لم يرتجعها . ومن قال : بائنة ، فلاستمرار التحريم بها ما لم يجدد العقد . ومن قال : ثلاثا ، حمل اللفظ على منتهى وجوهه . ومن قال : ظهار . نظر إلى معنى التحريم وقطع النظر عن الطلاق فانحصر الأمر عنده في الظهار انتهى .

ومن المطولين للبحث في هذه المسألة الحافظ ابن القيم فإنه تكلم عليها في الهدي كلاما طويلا وذكر ثلاثة عشر مذهبا أصولا تفرعت إلى عشرين مذهبا ، وذكر في كتابه المعروف بأعلام الموقعين خمسة عشر مذهبا ، وسنذكر ذلك على طريق الاختصار ونزيد عليه فوائد : المذهب الأول : أن قول القائل لامرأته : أنت علي حرام لغو وباطل لا يترتب عليه شيء ، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس ، وبه قال مسروق وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعطاء والشعبي وداود وجميع أهل الظاهر وأكثر أصحاب الحديث ، وهو أحد قولي المالكية ، واختاره أصبغ بن الفرج منهم ، واستدلوا بقوله تعالى : { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام } وبقوله تعالى : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } وسبب نزول هذه الآية ما تقدم ، وبالحديث الصحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلم : { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } وقد تقدم في كتاب الصلاة . القول الثاني : إنها ثلاث تطليقات ، وهو قول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه [ ص: 314 ] وزيد بن ثابت وابن عمر والحسن البصري ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى

وحكاه في البحر عن أبي هريرة ، واعترض ابن القيم الرواية عن زيد بن ثابت وابن عمر وقال : الثابت عنهما ما رواه ابن حزم أنهما قالا : عليه كفارة يمين ولم يصح عنهما خلاف ذلك . وروى ابن حزم عن علي عليه السلام الوقف في ذلك . وعن الحسن أنه قال : إنه يمين . واحتج أهل هذا القول بأنها لا تحرم عليه إلا بالثلاث فكان وقوع الثلاث من ضرورة كونها حراما . الثالث : أنها بهذا القول حرام عليه . قال ابن حزم وابن القيم في أعلام الموقعين : صح عن أبي هريرة والحسن وخلاس بن عمرو وجابر بن زيد وقتادة قال : لم يذكر هؤلاء طلاقا بل أمروه باجتنابها فقط . قال : وصح أيضا عن علي عليه السلام فإما أن يكون عنه روايتان ، أو يكون أراد تحريم الثلاث ، وحجة هذا القول أن لفظه إنما اقتضى التحريم ولم يتعرض لعدد الطلاق فحرمت عليه بمقتضى تحريمه . الرابع : الوقف فيها . قال ابن القيم : صح ذلك عن علي عليه السلام ، وهو قول الشعبي ، وحجة هذا القول أن التحريم ليس بطلاق ، والزوج لا يملك تحريم الحلال ، إنما يملك السبب الذي تحرم به وهو الطلاق ، وهذا ليس بصريح في الطلاق ولا هو مما له عرف في الشرع في تحريم الزوجة فاشتبه الأمر فيه

الخامس : إن نوى به الطلاق فهو طلاق ، وإن لم ينوه كان يمينا ، وهو قول طاوس والزهري والشافعي ورواية عن الحسن ، وحكاه أيضا في الفتح عن النخعي وإسحاق وابن مسعود وابن عمر . وحجة هذا القول أنه كناية في الطلاق فإن نواه كان طلاقا ، وإن لم ينوه كان يمينا لقوله تعالى: { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } إلى قوله : { تحلة أيمانكم } . السادس : أنه إن نوى الثلاث فثلاث وإن نوى واحدة فواحدة بائنة ، وإن نوى يمينا فهو يمين ، وإن لم ينو شيئا فهو كذبة لا شيء فيها ، قاله سفيان : وحكاه النخعي عن أصحابه ، وحجة هذا القول أن اللفظ محتمل لما نراه من ذلك فتتبع نيته . السابع : مثل هذا إلا أنه لم ينو شيئا فهو يمين يكفرها وهو قول الأوزاعي ، وحجة هذا القول ظاهر قوله تعالى: { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } فإذا نوى به الطلاق لم يكن يمينا ، فإذا أطلق ولم ينو شيئا كان يمينا . الثامن : مثل هذا أيضا إلا أنه إن لم ينو شيئا فواحدة بائنا إعمالا للفظ التحريم ، هكذا في أعلام الموقعين ولم يحكه عن أحد . وقد حكاه ابن حزم عن إبراهيم النخعي

التاسع : أن فيه كفارة ظهار . قال ابن القيم : صح عن ابن عباس وأبي قلابة وسعيد بن جبير ووهب بن منبه وعثمان البتي وهو إحدى الروايات عن أحمد ، وحجة هذا القول أن الله تعالى جعل التشبيه بمن تحرم عليه ظهارا ، فالتصريح بالتحريم أولى . قال ابن القيم : وهذا أقيس الأقوال . ويؤيده أن الله تعالى لم يجعل للمكلف التحليل والتحريم ، وإنما ذلك إليه [ ص: 315 ] تعالى ، وإنما جعل له مباشرة الأقوال والأفعال التي يترتب عليها التحريم ، فإذا قال : أنت علي كظهر أمي ، أو أنت علي حرام فقد قال المنكر من القول والزور وكذب على الله تعالى فإنه لم يجعلها عليه كظهر أمه ولا جعلها عليه حراما فقد أوجب بهذا القول المنكر والزور أغلظ الكفارتين وهي كفارة الظهار . العاشر : أنها تطليقة واحدة وهو إحدى الروايتين عن عمر بن الخطاب وقول حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة ، وحجة هذا القول أن تطليق التحريم لا يقتضي التحريم بالثلاث بل يصدق بأقله ، والواحدة متيقنة فحمل اللفظ عليها

الحادي عشر : أنه ينوي ما أراد من ذلك في إرادة أصل الطلاق وعدده وإن نوى تحريما بغير طلاق فيمين مكفرة . قال ابن القيم : وهو قول الشافعي ، وحجة هذا القول أن اللفظ صالح لذلك كله فلا يتعين واحدة منها إلا بالنية . وقد تقدم أن مذهب الشافعي هو القول الخامس وهو الذي حكاه عنه في فتح الباري ، بل حكاه عنه ابن القيم نفسه . الثاني عشر : أنه ينوي أيضا ما شاء من عدد الطلاق ، إلا أنه إذا نوى واحدة كانت بائنة ، وإن لم ينو شيئا فإيلاء ، وإن نوى الكذب فليس بشيء وهو قول أبي حنيفة وأصحابه هكذا قال ابن القيم .

وفي الفتح عن الحنفية أنه إذا نوى اثنتين فهي واحدة بائنة ، وإن لم ينو طلاقا فهو يمين ويصير موليا .

وفي رواية عن أبي حنيفة أنه إذا نوى الكذب دين ولم يقبل في الحكم ولا يكون مظاهرا عنده ، نواه أو لم ينوه ، ولو صرح به فقال : أعني به الظهار ، لم يكن مظاهرا ; وحجة هذا القول احتمال اللفظ . الثالث عشر : أنه يمين يكفره ما يكفر اليمين على حال

قال ابن القيم : صح ذلك عن أبي بكر وعمر بن الخطاب وابن عباس وعائشة وزيد بن ثابت وابن مسعود وعبد الله بن عمرو وعكرمة وعطاء وقتادة والحسن والشعبي وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وجابر بن زيد وسعيد بن جبير ونافع والأوزاعي وأبي ثور وخلق سواهم ، وحجة هذا القول ظاهر القرآن ، فإن الله تعالى ذكر فرض تحلة الأيمان عقب تحريم الحلال ، فلا بد أن يتناوله يقينا . الرابع عشر : أنه يمين مغلظة يتعين بها عتق رقبة . قال ابن القيم : صح أيضا عن ابن عباس وأبي بكر وعمر وابن مسعود وجماعة من التابعين ، وحجة هذا القول أنه لما كان يمينا مغلظة غلظت كفارتها . الخامس عشر : أنه طلاق ، ثم إنها إن كانت غير مدخول بها فهو ما نواه من الواحدة فما فوقها ، وإن كانت مدخولا بها فهو ثلاث ، وإن نوى أقل منها وهو إحدى الروايتين عن مالك ، ورواه في نهاية المجتهد عن علي وزيد بن ثابت ; وحجة هذا القول أن اللفظ لما اقتضى التحريم وجب أن يترتب عليه حكمه ، وغير المدخول بها تحرم بواحدة ، والمدخول بها لا تحرم إلا بالثلاث

[ ص: 316 ] واعلم أنه قد رجح المذهب الأول من هذه المذاهب جماعة من العلماء المتأخرين ، وهذا المذهب هو الراجح عندي إذا أراد تحريم العين ، وأما إذا أراد به الطلاق فليس في الأدلة ما يدل على امتناع وقوعه به ، أما قوله تعالى: { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام } وكذلك قوله تعالى: { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } فنحن نقول بموجب ذلك : فمن أراد تحريم عين زوجته لم تحرم . وأما من أراد طلاقها بذلك اللفظ فليس في الأدلة ما يدل على اختصاص الطلاق بألفاظ مخصوصة ، وعدم جوازه بما سواها ، وليس في قول الله تعالى : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد } ما يقضي بانحصار الفرقة في لفظ الطلاق . وقد ورد الإذن بما عداه من ألفاظ الفرقة كقوله صلى الله عليه وسلم لابنة الجون : { الحقي بأهلك } قال ابن القيم : وقد أوقع الصحابة الطلاق بأنت حرام ، وأمرك بيدك ، واختاري ، ووهبتك لأهلك ، وأنت خلية وقد خلوت مني ، وأنت برية وقد أبرأتك وأنت مبرأة ، وحبلك على غاربك ، انتهى . وأيضا قال الله تعالى : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } وظاهره أنه لو قال : سرحتك لكفى في إفادة معنى الطلاق

وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى جواز التجوز لعلاقة مع قرينة في جميع الألفاظ إلا ما خص فما الدليل على امتناعه في باب الطلاق ؟ وأما إذا حرم الرجل على نفسه شيئا غير زوجته كالطعام والشراب ، فظاهر الأدلة أنه لا يحرم عليه شيء من ذلك ; لأن الله لم يجعل إليه تحريما ولا تحليلا فيكون التحريم الواقع منه لغوا ، وقد ذهب إلى مثل هذا الشافعي ، وروي عن أحمد أن عليه كفارة يمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية