صفحة جزء
باب الحجة في العمل بالقافة 2923 - ( عن عائشة قالت { : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل علي مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال : ألم تري أن مجززا نظر آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد فقال : إن هذه الأقدام بعضها من بعض } رواه الجماعة .

وفي لفظ أبي داود وابن ماجه ورواية لمسلم والنسائي والترمذي : " ألم تري أن مجززا المدلجي رأى زيدا وأسامة قد غطيا رءوسهما بقطيفة وبدت أقدامهما فقال : إن هذه الأقدام بعضها من بعض " .

وفي لفظ قال : { دخل قائف والنبي صلى الله عليه وسلم شاهد وأسامة بن زيد وزيد بن حارثة مضطجعان فقال : إن هذه الأقدام بعضها من بعض ، فسر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأعجبه وأخبر به [ ص: 335 ] عائشة } . متفق عليه . قال أبو داود : كان أسامة أسود وكان زيد أبيض )


. قوله : ( تبرق أسارير ) الأسارير جمع سرر أو سرارة بفتح أولهما ويضمان ، وهما في الأصل خطوط الكف كما في القاموس ، أطلق على ما يظهر على وجه من سره أمر من الإضاءة والبريق قوله : ( إن مجززا ) هو بضم الميم وفتح الجيم وكسر الزاي الأولى ، اسم فاعل من الجز لأنه جز نواصي القوم ، هكذا قيده جماعة من الأئمة ، وذكر الدارقطني وعبد الغني عن ابن جريج أنه محرز بالحاء المهملة بعدها راء ثم زاي صيغة اسم الفاعل . قال الخطابي : في هذا الحديث دليل على ثبوت العمل بالقافة وصحة الحكم بقولهم في إلحاق الولد ، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يظهر السرور إلا بما هو حق عنده وكان الناس قد ارتابوا في زيد بن حارثة وابنه أسامة ، وكان زيد أبيض وأسامة أسود كما وقع في الرواية المذكورة ، فتمارى الناس في ذلك وتكلموا بقول كان يسوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما سمع قول المدلجي فرح به وسرى عنه ، وقد أثبت الحكم بالقافة عمر بن الخطاب وابن عباس وعطاء والأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد

وذهبت العترة والحنفية إلى أنه لا يعمل بقول القائف ، بل يحكم بالولد الذي ادعاه اثنان لهما . واحتج لهم صاحب البحر بحديث " الولد للفراش " وقد تقدم . ووجه الاستدلال به أن تعريف المسند إليه واللام الداخلة على المسند للاختصاص يفيدان الحصر . ويجاب بأن حديث الباب بعد تسليم الحصر المدعى مخصص لعمومه ، فيثبت به النسب في مثل الأمة المشتركة إذا وطئها المالكون لها .

وروي عن الإمام يحيى أن حديث القافة منسوخ . ويجاب بأن الأصل عدم النسخ ، ومجرد دعواه بلا برهان كما لا ينفع المدعي لا يضر خصمه . وأما ما قيل من أن حديث مجزز لا حجة فيه لأنه إنما يعرف القائف بزعمه أن هذا الشخص من ماء ذاك ، لا أنه طريق شرعي فلا يعرف إلا بالشرع ، فيجاب بأن في استبشاره صلى الله عليه وسلم من التقرير ما لا يخالف فيه مخالف ، ولو كان مثل ذلك لا يجوز في الشرع لقال له : إن ذلك لا يجوز . لا يقال : إن أسامة قد ثبت فراش أبيه شرعا ، وإنما لما وقعت القالة بسبب اختلاف اللون ، وكان قول المدلجي المذكور دفعا لها لاعتقادهم فيه الإصابة وصدق المعرفة ، استبشر صلى الله عليه وسلم بذلك ، فلا يصح التعلق بمثل هذا التقرير على إثبات أصل النسب

لأنا نقول : لو كانت القافة لا يجوز العمل بها إلا مثل هذه المنفعة مع مثل أولئك الذين قالوا مقالة السوء لما قرره صلى الله عليه وسلم على قوله " هذه الأقدام بعضها من بعض " وهو في قوة : هذا ابن هذا ، فإن ظاهره أنه تقرير للإلحاق بالقافة مطلقا لا إلزام للخصم بما يعتقده ، ولا سيما والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه إنكار كونها طريقا يثبت بها النسب حتى يكون تقريره لذلك من باب التقرير على مضي كافر . إلى كنيسة ونحوه مما عرف منه صلى الله عليه وسلم إنكاره قبل السكوت عنه . ومن الأدلة [ ص: 336 ] المقوية للعمل بالقافة حديث الملاعنة المتقدم حيث أخبر صلى الله عليه وسلم بأنها إن جاءت به على كذا فهو لفلان ، وإن جاءت به على كذا فهو لفلان ، فإن ذلك يدل على اعتبار المشابهة . لا يقال : لو كان ذلك معتبرا لما لاعن بعد أن جاءت بالولد مشابها لأحد الرجال ، وتبين له صلى الله عليه وسلم ذلك حتى قال : " لولا الأيمان لكان لي ولها شأن " لأنا نقول : إن النسب كان ثابتا بالفراش وهو أقوى ما يثبت به ، فلا تعارضه القافة لأنها إنما تعتبر مع الاحتمال فقط ولا سيما بعد وجود الأيمان التي شرعها الله تعالى بين المتلاعنين ولم يشرع في اللعان غيرها ، ولهذا جعلها صلى الله عليه وسلم مانعة من العمل بالقافة ، وفي ذلك إشعار بأنه يعمل بقول القائف مع عدمها

ومن المؤيدات للعمل بالقافة ما تقدم من جوابه صلى الله عليه وسلم على أم سليم حيث قالت : " أو تحتلم المرأة ؟ فقال : فيم يكون الشبه " وقال : " إن ماء الرجل إذا سبق ماء المرأة كان الشبه له " الحديث المتقدم . لا يقال : إن بيان سبب الشبه لا يدل على اعتباره في الإلحاق ; لأنا نقول : إن إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك يستلزم أنه مناط شرعي ، وإلا لما كان للإخبار فائدة يعتد بها . وأما عدم تمكينه صلى الله عليه وسلم لمن ذكر له أن ولده أسود من اللعان كما تقدم فلمخالفته لما يقضيه الفراش الذي لا يعارضه العمل بالشبه . إذا تقرر هذا فاعلم أنه لا معارضة بين حديث العمل بالقافة وحديث العمل بالقرعة الذي تقدم ; لأن كل واحد منهما دل على أن ما اشتمل عليه طريق شرعي فأيهما حصل وقع به الإلحاق ، فإن حصلا معا فمع الاتفاق لا إشكال ، ومع الاختلاف الظاهر أن الاعتبار بالأول منهما لأنه طريق شرعي يثبت به الحكم ولا ينقضه طريق آخر يحصل بعده . قوله : ( دخل قائف ) قال في القاموس : والقائف : من يعرف الآثار ، والجمع قافة ، وقاف أثره : تبعه ، كقفاه واقتفاه ، انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية