صفحة جزء
باب إحداد المعتدة 2936 - ( عن أم سلمة : { أن امرأة توفي زوجها فخشوا على عينها فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنوه في الكحل ، فقال : لا تكتحل ، كانت إحداكن تمكث في شر أحلاسها أو شر بيتها ، فإذا كان حول فمر كلب رمت ببعرة فلا حتى تمضي أربعة أشهر وعشر } متفق عليه ) .

2937 - ( وعن حميد بن نافع عن زينب بنت أم سلمة أنها أخبرته بهذه الأحاديث الثلاثة قالت : { دخلت على أم حبيبة حين توفي أبوها أبو سفيان ، فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره فدهنت منه جارية ، ثم مست بعارضيها ، ثم قالت : والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ، قالت زينب : ثم دخلت علي زينب بنت جحش حين توفي أخوها فدعت بطيب فمست منه ثم قالت : والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا . قالت زينب : وسمعت أمي أم سلمة تقول : جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا مرتين أو ثلاثا ، كل ذلك يقول : لا ، ثم قال : إنما هي أربعة أشهر وعشر ، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول ، قال حميد : فقلت لزينب : وما ترمي بالبعرة على رأس الحول ؟ [ ص: 347 ] فقالت زينب : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا ولا شيئا حتى تمر بها سنة ، ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير فتقتض به ، فقلما تفتض بشيء إلا مات ، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ، ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره } أخرجاه ) .

2938 - ( وعن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : لا يحل لامرأة مسلمة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاثة أيام إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرا } أخرجاه ، واحتج به من لم ير الإحداد على المطلقة )


قوله : ( أن امرأة ) هي عاتكة بنت نعيم بن عبد الله كما أخرجه ابن وهب عن أم سلمة والطبراني أيضا . قوله : ( لا تكتحل ) فيه دليل على تحريم الاكتحال على المرأة في أيام عدتها من موت زوجها سواء احتاجت إلى ذلك أم لا . وجاء في حديث أم سلمة في الموطأ وغيره " اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار " ولفظ أبي داود " فتكتحلين بالليل وتغسلينه بالنهار " قال في الفتح : ووجه الجمع بينهما أنها إذا لم تحتج إليه لا يحل . وإذا احتاجت لم يجز بالنهار ويجوز بالليل مع أن الأولى تركه ; فإذا فعلت مسحته بالنهار . وتأول بعضهم حديث الباب على أنه لم يتحقق الخوف على عينها . وتعقب بأن في حديث الباب المذكور : " فخشوا على عينها " في رواية لابن منده " وقد خشيت على بصرها " وفي رواية لابن حزم " إني أخشى أن تنفقئ عينها

قال : لا ، وإن انفقأت " قال الحافظ وسنده صحيح . ولهذا قال مالك في رواية عنه بمنعه مطلقا . وعنه : يجوز إذا خافت على عينها بما لا طيب فيه ، وبه قالت الشافعية مقيدا بالليل . وأجابوا عن قصة المرأة باحتمال أنه كان يحصل لها البرء بغير كحل كالتضميد بالصبر . ومنهم من تأول النهي على كحل مخصوص وهو ما يقتضي التزين به ; لأن محض التداوي قد يحصل بما لا زينة فيه فلم ينحصر فيما فيه زينة . وقالت طائفة من العلماء : يجوز ذلك ولو كان فيه طيب ، وحملوا النهي على التنزيه جمعا بين الأدلة . قوله : ( في شر أحلاسها ) المراد بالأحلاس : الثياب ، وهي بمهملتين جمع حلس بكسر ثم سكون : وهو الثوب ، أو الكساء الرقيق يكون تحت البرذعة . قوله : ( أو شر بيتها ) هو أضعف موضع فيه كالأمكنة المظلمة ونحوها ، والشك من الراوي . قوله : ( فمر كلب رمت ببعرة ) البعرة بفتح الباء الموحدة وسكون العين المهملة ويجوز فتحها ، وفي رواية مطرف وابن الماجشون عن مالك : " ترمي ببعرة من [ ص: 348 ] بعر الغنم أو الإبل ، فترمي بها أمامها فيكون ذلك إحلالا لها " وظاهر رواية الباب أن رميها بالبعرة يتوقف على مرور الكلب سواء طال زمن انتظار مروره أم قصر ، وبه جزم بعض الشراح

وقيل : ترمي بها من عرض من كلب أو غيره تري من حضرها أن مقامها حولا أهون عليها من بعرة ترمي بها كلبا أو غيره . واختلف في المراد برمي البعرة ، فقيل : هو إشارة إلى أنها رمت العدة رمي البعرة . وقيل : إشارة إلى أن الفعل الذي فعلته من التربص والصبر على البلاء الذي كانت فيه كان عندها بمنزلة البعرة التي رمتها استحقارا له وتعظيما لحق زوجها . وقيل بل ترميها على سبيل التفاؤل لعدم عودها إلى مثل ذلك قوله : ( حتى تمضي أربعة أشهر وعشر ) وقيل : الحكمة في ذلك أنها تكمل خلقة الولد وينفخ فيه الروح بعد مضي مائة وعشرين يوما ، وهي زيادة على أربعة أشهر لنقصان الأهلة ، فجبر الكسر إلى العقد على طريق الاحتياط ، وذكر العشر مؤنثا لإرادة الليالي ، والمراد مع أيامها عند الجمهور فلا تحل حتى تدخل الليلة الحادية عشرة . وعن الأوزاعي وبعض السلف تنقضي بمضي الليالي العشر بعد الأشهر ، وتحل في أول اليوم العاشر

واستثنيت الحامل كما تقدم شرح حالها . ويعارض أحاديث الباب ما أخرجه أحمد وابن حبان وصححه من حديث أسماء بنت عميس قالت : { دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم الثالث من قتل جعفر بن أبي طالب : فقال لا تحدي بعد يومك هذا } وسيأتي . قال العراقي في شرح الترمذي : ظاهره أنه لا يجب الإحداد على المتوفى عنها بعد اليوم الثالث ; لأن أسماء بنت عميس كانت زوج جعفر بالاتفاق وهي والدة أولاده ، قال : بل ظاهر النهي أن الإحداد لا يجوز . وأجاب بأن هذا الحديث شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة . وقد أجمعوا على خلافه . وأجاب الطحاوي بأنه منسوخ ، وأن الإحداد كان على المعتدة في بعض عدتها في وقت ثم وقع الأمر بالإحداد أربعة أشهر وعشرا . واستدل على النسخ بأحاديث الباب وليس فيها ما يدل على ذلك . وقيل : المراد بالإحداد المقيد بالثلاث قدر زائد على الإحداد المعروف فعلته أسماء مبالغة في حزنها على جعفر ، فنهاها عن ذلك بعد الثلاث

ويحتمل أنها كانت حاملا فوضعت بعد ثلاث فانقضت عدتها . ويحتمل أنه أبانها بالطلاق قبل استشهاده فلم يكن عليها إحداد . وقد أعل البيهقي الحديث بالانقطاع فقال : لم يثبت سماع عبد الله بن شداد من أسماء . وتعقب بأنه قد صححه أحمد ، وقد ورد معنى حديث أسماء من حديث ابن عمر بلفظ : " لا إحداد فوق ثلاث " قال أحمد : هذا منكر ، والمعروف ، عن ابن عمر من رأيه . ويحتمل أن يكون هذا لغير المرأة المعتدة فلا نكارة فيه بخلاف حديث أسماء . قوله : ( لا يحل ) استدل بذلك على تحريم الإحداد على غير الزوج وهو ظاهر ، وعلى وجوب الإحداد على المرأة التي مات زوجها . وتعقب بأن الاستثناء [ ص: 349 ] وقع بعد النفي ، وهو يدل على مجرد الجواز لا الوجوب . ورد بأن الوجوب استفيد من دليل آخر كالإجماع . وتعقب بأن المنقول عن الحسن البصري أن الإحداد لا يجب كما أخرجه عنه ابن أبي شيبة .

وروي أيضا عن الشعبي أنه كان لا يعرف الإحداد

وقيل : إن السياق دال على الوجوب : قوله : ( لامرأة ) تمسك بمفهومه الحنفية فقالوا : ( لا يجب الإحداد على الصغيرة ، وخالفهم الجمهور فأوجبوه عليها كالعدة . وأجابوا عن التقيد بالمرأة بأنه خرج مخرج الغالب ، وظاهر الحديث عدم الفرق بين المدخولة وغيرها والحرة والأمة . قوله : تؤمن بالله واليوم الآخر ) استدل به الحنفية وبعض المالكية على عدم وجوب الإحداد على الذمية . وخالفهم الجمهور ، وأجابوا بأنه ذكر للمبالغة في الزجر فلا مفهوم له . وقال النووي : التقييد بوصف الإيمان لأن المتصف به هو الذي ينقاد للشرع . ورجح ابن دقيق العيد الأول . وقد أجاب ابن القيم في الهدي عن هذا التقييد بما فيه كفاية فراجعه . قوله : ( تحد ) بضم أوله وكسر ثانيه من الرباعي ويجوز بفتح أوله وضم ثانيه من الثلاثي . قال أهل اللغة : أصل الإحداد : المنع ، ومنه تسمية البواب حدادا لمنعه الداخل ، وتسمية العقوبة حدا لأنها تردع عن المعصية

قال ابن درستويه : معنى الإحداد : منع المعتدة نفسها للزينة وبدنها للطيب ومنع الخطاب خطبتها ، وحكى الخطابي أنه يروى بالجيم والحاء والحاء أشهر . وهو بالجيم مأخوذ من جددت الشيء إذا قطعته ، فكأن المرأة انقطعت عن الزينة . قوله : ( على ميت ) استدل به من قال : إنه لا إحداد على امرأة المفقود لعدم تحقق وفاته خلافا للمالكية . وظاهره أنه لا إحداد على المطلقة . فأما الرجعية فإجماع وأما البائنة فلا إحداد عليها عند الجمهور . وقال أبو حنيفة وأبو عبيد وأبو ثور وبعض المالكية والشافعية ، وحكاه أيضا في البحر عن أمير المؤمنين علي وزيد بن علي والمنصور بالله والثوري والحسن بن صالح أنه يلزمها الإحداد . والحق الاقتصار على مورد النص عملا بالبراءة الأصلية فيما عداه ، فمن ادعى وجوب الإحداد على غير المتوفى عنها فعليه الدليل

وأما المطلقة قبل الدخول فقال في الفتح : إنه لا إحداد عليها اتفاقا . قوله : ( فوق ثلاث ) فيه دليل على جواز الإحداد على غير الزوج من قريب ونحوه ثلاث ليال فما دونها ، وتحريمه فيما زاد عليها ، وكأن هذا القدر أبيح لأجل حظ النفس ومراعاتها وغلبة الطباع البشرية . وأما ما أخرجه أبو داود في المراسيل من حديث عمرو بن شعيب " أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للمرأة أن تحد على أبيها سبعة أيام ، وعلى من سواه ثلاثة أيام " فلو صح لكان مخصصا للأب من هذا العموم لكنه مرسل . وأيضا عمرو بن شعيب ليس من التابعين حتى يدخل حديثه في المرسل . وقال الحافظ : يحتمل أن أبا داود لا يخص المرسل برواية التابعي . قوله : ( والله ما لي بالطيب من حاجة ) إشارة إلى أن آثار الحزن باقية عندها [ ص: 350 ] لكنها لم يسعها إلا امتثال الأمر . قوله : ( وقد اشتكت عينها ) قال ابن دقيق العيد : يجوز فيه وجهان : ضم النون على الفاعلية على أن تكون العين هي المشتكية ، وفتحها على أن يكون في اشتكت ضمير للفاعل ، ويرجح الأول أنه وقع في مسلم " عينيها " وعليها اقتصر النووي

قوله : ( أفنكحلها ) بضم الحاء . قوله : ( حفشا ) بكسر الحاء المهملة وسكون الفاء بعدها معجمة ، فسره أبو داود في روايته من طريق مالك أنه البيت الصغير . قوله : ( فتقتض به ) بفاء ثم مثناة من فوق ثم قاف ثم مثناة فوقية ثم ضاد معجمة ، فسره مالك بأنها تمسح به جلدها ، وفي النهاية فرجها ، وأصل الفض : الكسر : أي تكسر ما كانت فيه وتخرج منه بما فعلت بالدابة .

وفي رواية للنسائي " تقبص " بعد القاف باء موحدة ثم صاد مهملة ، والقبص : الأخذ بأطراف الأنامل . قال الأصبهاني وابن الأثير : هو كناية عن الإسراع : أي تذهب بسرعة إلى منزل أبويها لكثرة جفائها بقبح منظرها أو لشدة شوقها إلى الأزواج لبعد عهدها . قال ابن قتيبة : سألت الحجازيين عن الاقتضاض فذكروا أن المعتدة كانت لا تمس ماء ولا تقلم ظفرا ولا تزيل شعرا ، ثم تخرج بعد الحول بأقبح منظر ، ثم تقتض : أي تكسر ما كانت فيه من العدة بطائر تمسح به قبلها فلا يكاد يعيش ما تقتض به

قال الحافظ : وهذا لا يخالف تفسير مالك لكنه أخص منه لأنه أطلق الجلد فتبين أن المراد به جلد القبل . والافتضاض بالفاء : الاغتسال بالماء العذب لإزالة الوسخ حتى تصير بيضاء نقية كالفضة

التالي السابق


الخدمات العلمية