صفحة جزء
باب الوضوء من النوم لا اليسير منه على إحدى حالات الصلاة

242 - ( عن صفوان بن عسال قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة لكن من غائط وبول ونوم } رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه )


الحديث روي بهذا اللفظ وروي بالشرط الذي ذكره المصنف في باب : اشتراط الطهارة قبل لبس الخف ، وقد ذكرنا هنالك أن مداره على عاصم بن أبي النجود ، وقد تابعه جماعة . ومعنى قوله : { لكن من غائط وبول } أي لكن لا ننزع خفافنا من غائط وبول . ولفظ الحديث في باب : اشتراط الطهارة { ولا نخلعهما من غائط ولا بول ولا نوم ولا نخلعهما إلا من جنابة } فذكر الأحداث التي ينزع منها الخف ، والأحداث التي لا ينزع منها ، وعد من جملتها النوم ، فأشعر ذلك بأنه من نواقض الوضوء لا سيما بعد جعله مقترنا بالبول والغائط اللذين هما ناقضان بالإجماع ، وبالحديث استدل من قال : بأن النوم [ ص: 241 ] ناقض .

وقد اختلف الناس في ذلك على مذاهب ثمانية ، ذكرها النووي في شرح مسلم . المذهب الأول : أن النوم لا ينقض الوضوء على أي حال كان ، قال : وهو محكي عن أبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وأبي مجلز وحميد الأعرج ، والشيعة يعني الإمامية ، وزاد في البحر عمرو بن دينار ، واستدلوا بحديث أنس الآتي . المذهب الثاني : أن النوم ينقض الوضوء بكل حال قليله وكثيره قال النووي : وهو مذهب الحسن البصري والمزني وأبي عبيد القاسم بن سلام وإسحاق بن راهويه : وهو قول غريب للشافعي .

قال ابن المنذر : وبه أقول ، قال : وروي معناه عن ابن عباس وأبي هريرة ، ونسبه في البحر إلى العترة إلا أنهم يستثنون الخفقة والخفقتين ، واستدلوا بحديث الباب وحديث علي ومعاوية وسيأتيان ، وفي حديث علي { فمن نام فليتوضأ } ولم يفرق فيه بين قليل النوم وكثيره . المذهب الثالث : أن كثير النوم ينقض بكل حال وقليله لا ينقض بكل حال ، قال النووي : وهذا مذهب الزهري وربيعة والأوزاعي ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه ، واستدلوا بحديث أنس الآتي فإنه محمول على القليل ، .

وحديث : { من استحق النوم فعليه الوضوء } عند البيهقي أي استحق أن يسمى نائما ، فإن أريد بالقليل في هذا المذهب ما هو أعم من الخفقة والخفقتين فهو غير مذهب العترة ، وإن أريد به الخفقة والخفقتان فهو مذهبهم . المذهب الرابع : إذا نام على هيئة من هيئات المصلي كالراكع والساجد والقائم والقاعد لا ينتقض وضوءه سواء كان في الصلاة أو لم يكن ، وإن نام مضطجعا أو مستلقيا على قفاه انتقض ، قال النووي وهذا مذهب أبي حنيفة وداود ، وهو قول للشافعي غريب .

واستدلوا بحديث { إذا نام العبد في سجوده باهى الله به الملائكة } رواه البيهقي ، وقد ضعف ، وقاسوا سائر الهيئات التي للمصلي على السجود . المذهب الخامس : أنه لا ينقض إلا نوم الراكع والساجد . قال النووي وروي مثل هذا عن أحمد ، ولعل وجهه أن هيئة الركوع والسجود مظنة للانتقاض ، وقد ذكر هذا المذهب صاحب البدر التمام وصاحب سبل السلام بلفظ : ( إنه ينقض إلا نوم الراكع والساجد ) بخذف لا ، واستدلا له بحديث : { إذا نام العبد في سجوده } .

قالا : وقاس الركوع على السجود ، والذي في شرح مسلم للنووي بلفظ : ( إنه لا ينقض ) بإثبات ( لا ) فلينظر [ ص: 242 ] المذهب السادس : أنه لا ينقض إلا نوم الساجد ، قال النووي : يروى أيضا عن أحمد ، ولعل وجهه أن مظنة الانتقاض في السجود أشد منها في الركوع .

المذهب السابع : أنه لا ينقض النوم في الصلاة بكل حال ، وينقض خارج الصلاة ، ونسبه في البحر إلى زيد بن علي وأبي حنيفة ، واستدل لهما بحديث : { إذا نام العبد في سجوده } ولعل سائر هيئات المصلي مقاسة على السجود . المذهب الثامن : أنه إذا نام جالسا ممكنا مقعدته من الأرض لم ينقض ، سواء قل أو كثر ، وسواء كان في الصلاة أو خارجها ، قال النووي : وهذا مذهب الشافعي . وعنده أن النوم ليس حدثا في نفسه وإنما هو دليل على خروج الريح ، ودليل هذا القول حديث علي وابن عباس ومعاوية وسيأتي وهذا أقرب المذاهب عندي وبه يجمع بين الأدلة .

وقوله : إن النوم ليس حدثا في نفسه هو الظاهر . وحديث الباب وإن أشعر بأنه من الأحداث باعتبار اقترانه بما هو حدث بالإجماع فلا يخفى ضعف دلالة الاقتران وسقوطها عن الاعتبار عند أئمة الأصول ، والتصريح بأن النوم مظنة استطلاق الوكاء ، كما في حديث معاوية ، واسترخاء المفاصل كما في حديث ابن عباس مشعر أتم إشعار بنفي كونه حدثا في نفسه . وحديث { إن الصحابة كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ينامون ثم يصلون ولا يتوضئون } من المؤيدات لذلك ، ويبعد جهل الجميع منهم كونه ناقضا . والحاصل أن الأحاديث المطلقة في النوم تحمل على المقيدة بالاضطجاع ، وقد جاء في بعض الروايات بلفظ الحصر ، والمقال الذي فيه منجبر بما له من الطرق والشواهد وسيأتي .

ومن المؤيدات لهذا الجمع حديث ابن عباس الآتي بلفظ : { فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني } وحديث : { إذا نام العبد في صلاته باهى الله به ملائكته } أخرجه الدارقطني وابن شاهين من حديث أبي هريرة ، والبيهقي من حديث أنس وابن شاهين أيضا من حديث أبي سعيد ، وفي جميع طرقه مقال .

وحديث : { من استحق النوم وجب عليه الوضوء } عند البيهقي من حديث أبي هريرة بإسناد صحيح ، ولكنه قال البيهقي : روى ذلك مرفوعا ولا يصح . وقال الدارقطني : وقفه أصح ، وقد فسر استحقاق النوم بوضع الجنب .

( فائدة ) قال النووي في شرح مسلم بعد أن ساق الأقوال الثمانية التي أسلفناها ما لفظه : واتفقوا على أن زوال العقل بالجنون والإغماء والسكر بالخمر أو النبيذ أو البنج أو الدواء ينقض الوضوء ، سواء قل أو كثر ، وسواء كان ممكن المقعدة أو غير ممكنها انتهى .

وفي البحر أن السكر كالجنون عند الأكثر ، وعند المسعودي أنه غير ناقض إن لم يغش .

( فائدة أخرى ) قال النووي في شرح مسلم : قال أصحابنا : وكان من خصائص [ ص: 243 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا ينتقض وضوءه بالنوم مضطجعا للحديث الصحيح عن { ابن عباس قال : نام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه ، ثم صلى ولم يتوضأ } انتهى .

وفيه أنه أخرج الترمذي من حديث أنس { لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوقظون للصلاة حتى أنى لأسمع لأحدهم غطيطا ، ثم يقومون فيصلون ولا يتوضئون } وفي لفظ أبي داود زيادة " على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " وسيأتي الكلام عليه .

243 - ( وعن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { العين وكاء السه فمن نام فليتوضأ } رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه ) .

244 - ( وعن معاوية قال : قال رسول الله { العين وكاء السه ، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء . } رواه أحمد والدارقطني . السه : اسم لحلقة الدبر ، وسئل أحمد عن حديث علي ومعاوية في ذلك ، فقال : حديث علي أثبت وأقوى ) .

أما حديث علي فأخرجه أيضا الدارقطني ، وهو عند الجميع من رواية بقية عن الوضين بن عطاء ، قال الجوزجاني : واه ، وأنكر عليه هذا الحديث عن محفوظ بن علقمة - وهو ثقة - عن عبد الرحمن بن عائذ وهو تابعي ثقة معروف عن علي ، لكن قال أبو زرعة : لم يسمع منه .

قال الحافظ : وفي هذا النفي نظر ; لأنه يروي عن عمر كما جزم به البخاري . وأما حديث معاوية فأخرجه أيضا الدارقطني والبيهقي ، وفي إسناده بقية عن أبي بكر بن أبي مريم وهو ضعيف ، وقد ضعف الحديثين أبو حاتم ، وحسن المنذري وابن الصلاح والنووي حديث علي .

قوله : ( وكاء السه ) الوكاء بكسر الواو : الخيط الذي يربط به الخريطة . والسه بفتح السين المهملة وكسر الهاء المخففة : الدبر . والمعنى اليقظة وكاء الدبر أي حافظة ما فيه من الخروج ; لأنه ما دام مستيقظا أحس بما يخرج منه ، والحديثان يدلان على أن النوم مظنة النقض لا أنه بنفسه ناقض ، وقد تقدم الكلام على ذلك في الذي قبله .

245 - ( وعن { ابن عباس قال : بت عند خالتي ميمونة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت إلى جنبه الأيسر فأخذ بيدي فجعلني من شقه الأيمن فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني قال : فصلى إحدى عشرة ركعة } . رواه مسلم ) [ ص: 244 ] هذا طرف من حديث ابن عباس . وقد اتفق الشيخان على إخراجه ، وفيه فوائد وأحكام ليس هذا محل بسطها .

قوله : ( إذا أغفيت ) الإغفاء : النوم أو النعاس - ذكر معناه في القاموس ، وفي الحديث دلالة على أن النوم اليسير حال الصلاة غير ناقض ، وقد تقدم في الكلام على ذلك .

246 - ( وعن أنس قال : { كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رءوسهم ثم يصلون ولا يتوضئون } . رواه أبو داود ) .

الحديث أخرجه أيضا الشافعي في الأم ، ومسلم والترمذي . قال أبو داود : وزاد شعبة عن قتادة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولفظ الترمذي من طريق شعبة ، { لقد رأيت صلى الله عليه وسلم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوقظون للصلاة حتى إني لأسمع لأحدهم غطيطا ثم يقومون فيصلون ولا يتوضئون } .

قال ابن المبارك : هذا عندنا وهم جلوس . قال البيهقي : وعلى هذا حمله عبد الرحمن بن مهدي والشافعي . وقال ابن القطان : هذا الحديث سياقه في مسلم يحتمل أن ينزل على نوم الجالس ، وعلى ذلك نزله أكثر الناس ، لكن فيه زيادة تمنع من ذلك رواها يحيى بن القطان عن شعبة عن قتادة عن أنس قال : { كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون الصلاة فيضعون جنوبهم فمنهم من ينام ثم يقوم إلى الصلاة } .

وقال ابن دقيق العيد : يحمل على النوم الخفيف ، لكن يعارضه رواية الترمذي التي ذكر فيها الغطيط ، وقد رواه أحمد من طريق يحيى القطان ، والترمذي عن بندار بدون يضعون جنوبهم . وأخرجه بتلك الزيادة البيهقي والبزار والخلال .

قوله : ( تخفق رءوسهم ) في القاموس خفق فلان : حرك رأسه إذا نعس . والحديث يدل على أن يسير النوم لا ينقض الوضوء ، إن ثبت التقرير لهم على ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد تقدم الكلام في الخلاف في ذلك .

247 - ( وعن يزيد بن عبد الرحمن عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ليس على من نام ساجدا وضوء حتى يضطجع فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله } رواه أحمد ، ويزيد هو الدالاني قال أحمد : لا بأس به . قلت : وقد ضعف بعضهم حديث الدالاني هذا لإرساله قال شعبة إنما سمع قتادة من أبي العالية أربعة أحاديث فذكرها وليس هذا منها ) [ ص: 245 ] الحديث أخرجه أيضا أبو داود والترمذي والدارقطني بلفظ : { لا وضوء على من نام قاعدا إنما الوضوء على من نام مضطجعا ، فإن من نام مضطجعا استرخت مفاصله } وأخرجه البيهقي بلفظ : { لا يجب الوضوء على من نام جالسا أو قائما أو ساجدا حتى يضع جنبه } ومداره على يزيد أبي خالد الدالاني وعليه اختلف في ألفاظه ، وضعف الحديث من أصله أحمد والبخاري فيما نقله الترمذي في العلل المفردة . وضعفه أيضا أبو داود في السنن ، وإبراهيم الحربي في علله والترمذي وغيرهم قال البيهقي في الخلافيات : تفرد به أبو خالد الدالاني ، وأنكره عليه جميع أئمة الحديث .

وقال في السنن : أنكره عليه جميع الحفاظ ، وأنكروا سماعه من قتادة . وقال الترمذي : رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن ابن عباس من قوله ، ولم يذكر أبا العالية ولم يرفعه ، ويزيد الدالاني هذا الذي ضعف الحديث به ، وثقه أبو حاتم ، وقال النسائي : ليس به بأس ، وكذلك قال أحمد كما حكاه المصنف ، وقال ابن عدي : في حديثه لين ، وأفرط ابن حبان فقال : لا يجوز الاحتجاج به ، وقال الذهبي في المغني : مشهور حسن الحديث . وروى ابن عدي في الكامل من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده حديث : { لا وضوء على من نام قائما أو راكعا } وفيه مهدي بن هلال وهو متهم بوضع الحديث . ومن رواية عمر بن هارون البلخي وهو متروك . ومن رواية مقاتل بن سليمان وهو متهم .

ورواه البيهقي من حديث حذيفة بلفظ قال : { كنت في مسجد المدينة جالسا أخفق ، فاحتضنني رجل من خلفي ، فالتفت فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : هل وجب علي الوضوء يا رسول الله ؟ فقال : لا حتى تضع جنبك } قال البيهقي : تفرد به بحر بن كنيز ، وهو متروك لا يحتج به .

وروى البيهقي من طريق يزيد بن قسيط عن أبي هريرة أنه سمعه يقول : { ليس على المحتبي النائم ، ولا على القائم النائم وضوء حتى يضطجع ، فإذا اضطجع توضأ } قال الحافظ : إسناده جيد وهو موقوف . والحديث يدل على أن النوم لا يكون ناقضا إلا في حالة الاضطجاع ، وقد سلف أنه الراجح . .

التالي السابق


الخدمات العلمية