صفحة جزء
باب ما جاء في رضاعة الكبير 2961 - ( عن زينب بنت أم سلمة قالت : { قالت أم سلمة لعائشة : إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي ؟ فقالت عائشة : أما لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة ؟ وقالت : إن امرأة أبي حذيفة قالت : يا رسول الله إن سالما يدخل علي وهو رجل وفي نفس أبي حذيفة منه شيء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرضعيه حتى يدخل عليك } رواه أحمد ومسلم وفي رواية عن زينب عن أمها { أم سلمة أنها قالت : أبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهن أحدا بتلك الرضاعة وقلن لعائشة : ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة ، فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة ولا رائينا } رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه )


هذا الحديث قد رواه من الصحابة أمهات المؤمنين وسهلة بنت سهيل وهي من المهاجرات وزينب بنت أم سلمة وهي ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم ورواه من التابعين القاسم بن [ ص: 372 ] محمد وعروة بن الزبير وحميد بن نافع ، ورواه عن هؤلاء الزهري وابن أبي مليكة وعبد الرحمن بن القاسم ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة ، ثم رواه عن هؤلاء أيوب السختياني وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وشعبة ومالك وابن جريج وشعيب ويونس وجعفر بن ربيعة ومعمر وسليمان بن بلال وغيرهم ، وهؤلاء هم أئمة الحديث المرجوع إليهم في أعصارهم ، ثم رواه عنهم الجم الغفير والعدد الكثير وقد قال بعض أهل العلم : إن هذه السنة بلغت طرقها نصاب التواتر

وقد استدل بذلك من قال : إن إرضاع الكبير يثبت به التحريم ، وهو مذهب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما حكاه عنه ابن حزم وأما ابن عبد البر فأنكر الرواية عنه في ذلك ، وقال : لا يصح ، وإليه ذهبت عائشة وعروة بن الزبير وعطاء بن أبي رباح والليث بن سعد وابن علية وحكاه النووي عن داود الظاهري ، وإليه ذهب ابن حزم ويؤيد ذلك الإطلاقات القرآنية كقوله تعالى : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } وذهب الجمهور إلى أن حكم الرضاع إنما يثبت في الصغير وأجابوا عن قصة سالم بأنها خاصة به كما وقع من أمهات المؤمنين لما قالت لهن عائشة بذلك محتجة به

وأجيب بأن دعوى الاختصاص تحتاج إلى دليل وقد اعترفن بصحة الحجة التي جاءت بها عائشة ، ولا حجة في إبائهن لها كما أنه لا حجة في أقوالهن ; ولهذا سكتت أم سلمة لما قالت لها عائشة : { أما لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة ؟ } ولو كانت هذه السنة مختصة بسالم لبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما بين اختصاص أبي بردة بالتضحية بالجذع من المعز ، واختصاص خزيمة بأن شهادته كشهادة رجلين وأجيب أيضا بدعوى نسخ قصة سالم المذكورة ، واستدل على ذلك بأنها كانت في أول الهجرة عند نزول قوله تعالى: { ادعوهم لآبائهم } وقد ثبت اعتبار الصغر من حديث ابن عباس ، ولم يقدم المدينة إلا قبل الفتح ، ومن حديث أبي هريرة ولم يسلم إلا في فتح خيبر ورد ذلك بأنهما لم يصرحا بالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم ، وأيضا حديث ابن عباس مما لا تثبت به الحجة كما سيجيء ، ولو كان النسخ صحيحا لما ترك التشبث به أمهات المؤمنين

ومن أجوبتهم أيضا حديث { لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام } وحديث { إنما الرضاعة من المجاعة } وسيأتي الجواب عن ذلك كما سيأتي الجواب عن حديث { لا رضاع إلا ما كان في الحولين } وقد اختلفوا في تقدير المدة التي يقتضي الرضاع فيها التحريم على أقوال : الأول : أنه لا يحرم منه إلا ما كان في الحولين ، وقد حكاه في البحر عن عمر وابن عباس وابن مسعود والعترة والشافعي وأبي حنيفة والثوري والحسن بن صالح ومالك وزفر ومحمد ا هـ وروي أيضا عن أبي هريرة وابن عمر وأحمد وأبي يوسف وسعيد بن المسيب والشعبي وابن شبرمة [ ص: 373 ] وإسحاق وأبي عبيد وابن المنذر

القول الثاني : أن الرضاع المقتضي للتحريم ما كان قبل الفطام وإليه ذهبت أم سلمة ، وروي عن علي ولم يصح عنه ، وروي عن ابن عباس ، وبه قال الحسن والزهري والأوزاعي وعكرمة وقتادة . القول الثالث : أن الرضاع في حال الصغر يقتضي التحريم ولم يحده القائل بحد ، وروي ذلك عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما خلا عائشة ، وعن ابن عمر وسعيد بن المسيب القول الرابع : ثلاثون شهرا ، وهو رواية عن أبي حنيفة وزفر القول الخامس : في الحولين وما قاربهما

روي ذلك عن مالك ، وروي عنه أن الرضاع بعد الحولين لا يحرم قليله ولا كثيره كما في الموطأ القول السادس : ثلاث سنين ، وهو مروي عن جماعة من أهل الكوفة ، وعن الحسن بن صالح القول السابع : سبع سنين ، روي ذلك عن عمر بن عبد العزيز القول الثامن : حولان واثنا عشر يوما ، روي عن ربيعة

القول التاسع : أن الرضاع يعتبر فيه الصغر إلا فيما دعت إليه الحاجة كرضاع الكبير الذي لا يستغنى عن دخوله على المرأة ويشق احتجابها منه ، وإليه ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وهذا هو الراجح عندي ، وبه يحصل الجمع بين الأحاديث ، وذلك بأن تجعل قصة سالم المذكورة مخصصة لعموم { إنما الرضاع من المجاعة } ، { ولا رضاع إلا في الحولين } ، { ولا رضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام } ، { ولا رضاع إلا ما أنشر العظم وأنبت اللحم } وهذه طريق متوسطة بين طريقة من استدل بهذه الأحاديث على أنه لا حكم لرضاع الكبير مطلقا ، وبين من جعل رضاع الكبير كرضاع الصغير مطلقا لما لا يخلو عنه واحدة من هاتين الطريقتين من التعسف كما سيأتي بيانه ، ويؤيد هذا أن سؤال سهلة امرأة أبي حذيفة كان بعد نزول آية الحجاب ، وهي مصرحة بعدم جواز إبداء الزينة لغير من في الآية ، فلا يخص منها غير من استثناه الله تعالى إلا بدليل كقضية سالم وما كان مماثلا لها في تلك العلة التي هي الحاجة إلى رفع الحجاب من غير أن يقيد ذلك بحاجة مخصوصة من الحاجات المقتضية لرفع الحجاب ولا بشخص من الأشخاص ولا بمقدار من عمر الرضيع معلوم

وقد ثبت حديث سهلة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : { إن سالما ذو لحية فقال : أرضعيه } وينبغي أن يكون الرضاع خمس رضعات لما تقدم في الباب الأول .

قوله : ( الغلام الأيفع ) هو من راهق عشرين سنة على ما في القاموس .

2962 - ( وعن أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام } رواه الترمذي وصححه ) .

[ ص: 374 ] وعن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا رضاع إلا ما كان في الحولين } رواه الدارقطني وقال : لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل وهو ثقة حافظ ) .

2964 - ( وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا رضاع بعد فصال ، ولا يتم بعد احتلام } رواه أبو داود الطيالسي في مسنده ) .

2965 - ( وعن عائشة قالت : { دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي رجل ، فقال : من هذا ؟ قلت : أخي من الرضاعة ، قال : يا عائشة انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة } رواه الجماعة إلا الترمذي ) .

حديث أم سلمة أخرجه أيضا الحاكم وصححه وأعل بالانقطاع لأنه من رواية فاطمة بنت المنذر بن الزبير الأسدية عن أم سلمة ولم تسمع منها شيئا لصغر سنها إذ ذاك وحديث ابن عباس رواه أيضا سعيد بن منصور والبيهقي وابن عدي وقال : يعرف بالهيثم وغيره وكان يغلط ، وصحح البيهقي وقفه ، ورجح ابن عدي الموقوف ، وقال ابن كثير في الإرشاد : رواه مالك في الموطأ عن ثور بن يزيد عن ابن عباس موقوفا وهو أصح وكذا رواه غير ثور عن ابن عباس .

وحديث جابر قد قدمنا في باب علامات البلوغ من كتاب التفليس عند الكلام على حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه بلفظ : حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { : لا يتم بعد احتلام } الحديث أن المنذري قال : وقد روي هذا الحديث يعني حديث علي من رواية جابر بن عبد الله وأنس بن مالك وليس فيها شيء يثبت ا هـ وهو يشير برواية جابر بن عبد الله إلى حديثه هذا ولا يخفى أن حديث ابن عباس المذكور ههنا يشهد له ، وكذلك يشهد له حديث علي المتقدم هنالك قوله : ( إلا ما فتق الأمعاء ) أي سلك فيها ، والفتق : الشق ، والأمعاء جمع المعى بفتح الميم وكسرها قوله : ( الثدي ) أي في زمن الثدي ، وهو لغة معروفة فإن العرب تقول : مات فلان في الثدي : أي في زمن الرضاع قبل الفطام كما وقع التصريح بذلك في آخر الحديث

قوله : ( انظرن من إخوانكن ) هو أمر بالتأمل فيما وقع من الرضاع هل هو رضاع صحيح مستجمع للشروط المعتبرة قال المهلب : المعنى انظرن ما سبب هذه الأخوة فإن حرمة الرضاع [ ص: 375 ] إنما هي في الصغر حيث تسد الرضاعة المجاعة وقال أبو عبيد : معناه أن الذي إذا جاع كان طعامه الذي يشبعه اللبن من الرضاع هو الصبي لا حيث يكون الغذاء بغير الرضاع قوله : ( فإنما الرضاعة من المجاعة ) هو تعليل للباعث على إمعان النظر والتفكر بأن الرضاعة التي تثبت بها الحرمة هي حيث يكون الرضيع طفلا يسد اللبن جوعته

وأما من كان يأكل ويشرب فرضاعه لا عن مجاعة لأن في الطعام والشراب ما يسد جوعته ، بخلاف الطفل الذي لا يأكل الطعام ومثل هذا المعنى حديث : { لا رضاع إلا ما أنشر العظم وأنبت اللحم } فإن إنشار العظم وإنبات اللحم إنما يكون لمن كان غذاؤه اللبن وقد احتج بهذه الأحاديث من قال : إن رضاع الكبير لا يقتضي التحريم مطلقا وهم الجمهور كما تقدم وأجاب القائلون بأن رضاع الكبير يقتضي التحريم مطلقا وهم من تقدم ذكره عن هذه الأحاديث ، فقالوا : أما حديث : { لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء } فأجابوا عنه بأنه منقطع كما تقدم ولا يخفى أن تصحيح الترمذي والحاكم لهذا الحديث يدفع علة الانقطاع فإنهما لا يصححان ما كان منقطعا إلا وقد صح لهما اتصاله ، لما تقرر في علم الاصطلاح أن المنقطع من قسم الضعيف وأجابوا عن حديث : { لا رضاع إلا ما كان في الحولين } بأنه موقوف كما تقدم ، ولا حجة في الموقوف ، وبما تقدم من اشتهار الهيثم بن جميل بالغلط وهو المنفرد برفعه ولا يخفى أن الرفع زيادة يجب المصير إليها على ما ذهب إليه أئمة الأصول وبعض أئمة الحديث إذا كانت ثابتة من طريق ثقة ، والهيثم ثقة كما قاله الدارقطني مع كونه مؤيدا بحديث جابر المذكور

وأجابوا عن حديث { فإنما الرضاعة من المجاعة } بأن شرب الكبير يؤثر في دفع مجاعته قطعا كما يؤثر في دفع مجاعة الصغير أو قريبا منه وأورد عليهم أن الأمر إذا كان كما ذكرتم من استواء الكبير والصغير فما الفائدة في الحديث ، وتخلصوا عن ذلك بأن فائدته إبطال تعلق التحريم بالقطرة من اللبن والمصة التي لا تغني من جوع ولا يخفى ما في هذا من التعسف ولا ريب أن سد الجوعة باللبن الكائن في ضرع المرضعة إنما يكون لمن لم يجد طعاما ولا شرابا غيره ، وأما من كان يأكل ويشرب فهو لا تسد جوعته عند الحاجة بغير الطعام والشراب ، وكون الرضاع مما يمكن أن يسد به جوعة الكبير أمر خارج عن محل النزاع ، فإنه ليس النزاع فيمن يمكن أن تسد جوعته به ، إنما النزاع فيمن لا تسد جوعته إلا به ، وهكذا أجابوا عن الاحتجاج بحديث { لا رضاع إلا ما أنشر العظم وأنبت اللحم } فقالوا : إنه يمكن أن يكون الرضاع كذلك في حق الكبير ما لم يبلغ أرذل العمر ، ولا يخفى ما فيه من التعسف ، والحق ما قدمنا أن قضية سالم مختصة بمن حصل له ضرورة بالحجاب لكثرة الملابسة ، فتكون هذه الأحاديث مخصصة بذلك النوع فتجتمع حينئذ الأحاديث ويندفع التعسف [ ص: 376 ] من الجانبين

وقد احتج القائلون باشتراط الصغر بقوله تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } قالوا : وذلك بيان للمدة التي تثبت فيها أحكام الرضاع ويجاب بأن هذه الآية مخصصة بحديث قصة سالم الصحيح

التالي السابق


الخدمات العلمية