صفحة جزء
باب هل يستوفى القصاص والحدود في الحرم أم لا ؟ [ ص: 51 ] عن أنس { أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر ، فلما نزعه جاءه رجل فقال : ابن خطل متعلق بأستار الكعبة ، فقال : اقتلوه } ) .

3039 - وعن أبي هريرة قال : { لما فتح الله على رسوله مكة قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمسلمين ، وإنها لم تحل لأحد قبلي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار ، وإنها لا تحل لأحد بعدي } .

3040 - ( وعن أبي شريح الخزاعي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به حمد الله وأثنى عليه ثم قال : { إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا له : إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار ، ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، فليبلغ الشاهد الغائب } ، فقيل لأبي شريح : ماذا قال لك عمرو ؟ قال : أنا أعلم بذاك منك يا أبا شريح إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ، ولا فارا بخربة ) .

3041 - ( وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : { إن هذا البلد حرام حرمه الله يوم خلق السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة } متفق على أربعتهن ) .

3042 - ( وعن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن أعدى الناس على الله [ ص: 52 ] عز وجل من قتل في الحرم أو قتل غير قاتله أو قتل بذحول الجاهلية } رواه أحمد وله من حديث أبي شريح الخزاعي نحوه وقال ابن عمر لو وجدت قاتل عمر في الحرم ما هجته وقال ابن عباس في الذي يصيب حدا ثم يلجأ إلى الحرم يقام عليه الحد إذا خرج من الحرم حكاهما أحمد في رواية الأثرم )


حديث عبد الله بن عمر أخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه . وحديث أبي شريح الآخر الذي أشار إليه المصنف أخرجه أيضا الدارقطني والطبراني والحاكم ، ورواه الحاكم والبيهقي من حديث عائشة بمعناه . وروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس مرفوعا { أبغض الناس إلى الله ثلاثة : ملحد في الحرم ، ومتبع في الإسلام سنة جاهلية ، ومطلب دم بغير حق ليهريق دمه } والملحد في الأصل : هو المائل عن الحق . وأخرج عمر بن شبة عن عطاء بن يزيد قال : { قتل رجل بالمزدلفة ، يعني في غزوة الفتح ، فذكر القصة وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : وما أعلم أحدا أعتى على الله من ثلاثة : رجل قتل في الحرم أو قتل غير قاتله ، أو قتل بذحل في الجاهلية } قوله : ( عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة . . . إلخ ) قد تقدم هذا الحديث وشرحه في باب دخول مكة من غير إحرام من أبواب الحج قوله : ( إن الله حبس عن مكة الفيل ) هو الحيوان المشهور ، وأشار بحبسه عن مكة إلى قضية الحبشة وهي مشهورة ساقها ابن إسحاق مبسوطة .

وحاصل ما ساقه أن أبرهة الحبشي لما غلب على اليمن وكان نصرانيا بنى كنيسة وألزم الناس بالحج إليها ، فعمد بعض العرب فاستغفل الحجبة وتغوط وهرب ، فغضب أبرهة وعزم على تخريب الكعبة ، فتجهز في جيش كثيف واستصحب معه فيلا عظيما ، فلما قرب من مكة خرج إليه عبد المطلب فأعظمه ، وكان جميل الهيئة ، فطلب منه أن يرد عليه إبلا نهبت ، فاستقصر همته وقال : لقد ظننت أنك لا تسألني إلا في الأمر الذي جئت فيه ، فقال : إن لهذا البيت ربا سيحميه ، فأعاد إليه إبله ، وتقدم أبرهة بجيوشه فقدموا الفيل ، فأرسل الله عليهم طيرا مع كل واحدة ثلاثة أحجار : حجران في رجليه وحجر في منقاره ، فألقتها عليهم فلم يبق منهم أحد إلا أصيب .

وأخرج ابن مردويه بسند حسن عن عكرمة عن ابن عباس قال : جاء أصحاب الفيل حتى نزلوا الصفاح وهو بكسر المهملة ثم فاء ثم مهملة : موضع خارج مكة من جهة طريق اليمن ، فأتاهم عبد المطلب فقال : إن هذا بيت الله لم يسلط عليه أحدا ، فقالوا : لا نرجع حتى نهدمه ، فكانوا لا يقدمون الفيل قبله إلا تأخر ، فدعا الله الطير الأبابيل فأعطاها حجارة سوداء ، فلما حاذتهم رمتهم فما بقي منهم أحد إلا أخذته الحكة ، فكان لا يحك أحد منهم جلده إلا تساقط لحمه . [ ص: 53 ] قال ابن إسحاق : حدثني : يغوث بن عتبة قال : حدثت أن أول ما وقعت الحصبة والجدري بأرض العرب يومئذ . وعند الطبري بسند صحيح عن عكرمة " أنها كانت طيرا خضرا خرجت من البحر لها رءوس كرءوس السباع " . ولابن أبي حاتم من طريق عبيد بن عمير بسند قوي بعث الله عليهم طيرا أنشأها من البحر كأمثال الخطاطيف فذكر نحو ما تقدم . قوله ( : لعمرو بن سعيد ) هو المعروف بالأشدق وكان أميرا على دمشق من جهة عبد الملك بن مروان فقتله عبد الملك وقصته مشهورة . قوله : ( ولا يعضد بها شجرة ) قد تقدم ضبطه وتفسيره في الحج قوله : ( فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ) أي استدل بقتاله صلى الله عليه وسلم فيها على أن القتال فيها لغيره مرخص فيه قوله : ( إن الحرم لا يعيذ عاصيا ) هذا من عمرو المذكور معارضة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه وهو مصادم للنص ، ولا جرم فالمذكور من عتاة الأمة النابين عن الحق قوله : ( ولا فارا بخربة ) بضم الخاء المعجمة ويجوز فتحها وسكون الراء بعدها باء موحدة ، وهي في الأصل سرقة الإبل ، وفي البخاري أنها الخيانة . وقال الترمذي : قد روي بخزية بالزاي والياء التحتية : أي بجريمة يستحيا منها قوله : { إن أعدى الناس } في رواية { إن أعتى الناس } وهما تفضيل : أي الزائد في التعدي أو العتو على غيره ، والعتو : التكبر والتجبر . وقد أخرج البيهقي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه قال وجد في قائم سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب { إن أعدى الناس على الله } الحديث وأخرج من حديث سليمان بلفظ { إن أعتى الناس على الله } . وأخرج أيضا حديث أبي شريح بلفظ { إن أعتى الناس على الله } الحديث قوله : ( بذحول الجاهلية ) جمع ذحل بفتح الذال المعجمة وسكون الحاء المهملة : وهو الثأر وطلب المكافأة والعداوة أيضا . والمراد هنا طلب من كان له دم في الجاهلية بعد دخوله في الإسلام . والمراد أن هؤلاء الثلاثة ، أعتى أهل المعاصي وأبغضهم إلى الله ، وإلا فالشرك أبغض إليه من كل معصية ، كذا قال المهلب وغيره .

وقد استدل بحديث أنس المذكور على أن الحرم لا يعصم من إقامة واجب ، ولا يؤخر لأجله عن وقته ، كذا قال الخطابي ، وقد ذهب إلى ذلك مالك والشافعي ، وهو اختيار ابن المنذر . ويؤيد ذلك عموم الأدلة القاضية باستيفاء الحدود في كل مكان وزمان .

وذهب الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، والحنفية وسائر أهل العراق ، وأحمد ومن وافقه من أهل الحديث والعترة إلى أنه لا يحل لأحد أن يسفك بالحرم دما ولا يقيم به حدا حتى يخرج عنه من لجأ إليه .

واستدلوا على ذلك بعموم حديث أبي هريرة وأبي شريح وابن عباس وعبد الله بن عمر وعموم قوله تعالى: { ومن دخله كان آمنا } وهو الحكم الثابت قبل الإسلام وبعده ، فإن أهل الجاهلية كان يرى أحدهم قاتل ابنه فلا يهيجه . وكذلك في الإسلام كما قاله [ ص: 54 ] ابن عمر في الأثر المذكور ، وكما روى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب أنه قال : لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه .

وهكذا روي عن ابن عباس أنه قال : لو وجدت قاتل أبي في الحرم ما هجته .

وأما الاستدلال بحديث أنس المذكور فوهم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل ابن خطل الساعة التي أحل الله فيها القتال بمكة ، وقد أخبرنا بأنها لم تحل لأحد قبله ولا لأحد بعده ، وأخبرنا أن حرمتها قد عادت بعد تلك الساعة كما كانت ، وأما الاستدلال بعموم الأدلة القاضية باستيفاء الحدود فيجاب أولا بمنع عمومها لكل مكان وكل زمان لعدم التصريح بهما . وعلى تسليم العموم فهو مخصص بأحاديث الباب لأنها قاضية بمنع ذلك في مكان خاص وهي متأخرة فإنها في حجة الوداع بعد شرعية الحدود . هذا إذا ارتكب ما يوجب حدا أو قصاصا في خارج الحرم ثم لجأ إليه .

وأما إذا ارتكب ما يوجب حدا أو قصاصا في الحرم فذهب بعض العترة إلى أنه يخرج من الحرم ويقام عليه الحد .

وروى أحمد عن ابن عباس أنه قال : " من سرق أو قتل في الحرم أقيم عليه في الحرم " . ويؤيد ذلك قوله تعالى: { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم } ويؤيده أيضا أن الجاني في الحرم هاتك لحرمته بخلاف الملتجئ إليه . وأيضا لو ترك الحد والقصاص على من فعل ما يوجبه في الحرم لعظم الفساد في الحرم . وظاهر أحاديث الباب المنع مطلقا من غير فرق بين اللاجئ إلى الحرم ، والمرتكب لما يوجب حدا أو قصاصا في داخله وبين قتل النفس أو قطع العضو ، والآية التي فيها الإذن بمقاتلة من قاتل عند المسجد الحرام لا تدل إلا على جواز المدافعة لمن قاتل حال المقاتلة كما يدل على ذلك التقيد بالشرط .

وقد اختلف العلماء في كون هذه الآية منسوخة ومحكمة حتى قال أبو جعفر في كتاب الناسخ والمنسوخ : إنها من أصعب ما في الناسخ والمنسوخ ، فمن قال بأنها محكمة مجاهد وطاوس ، وأنه لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم تمسكا بظاهر الآية وبأحاديث الباب ، وقال في جامع البيان : إن هذا قول الأكثر .

ومن القائلين بالنسخ قتادة قال : والناسخ لهما قوله تعالى: { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } وقيل بآية التوبة كما ذكر النجري قال أبو جعفر : وهذا قول أكثر أهل النظر وأن المشركين يقاتلون في الحرم وغيره بالقرآن والسنة قال الله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وبراءة نزلت بعد البقرة بسنتين ، وقال تعالى : { وقاتلوا المشركين كافة } ، وأما السنة فما روي أنه صلى الله عليه وسلم : { دخل وعلى رأسه المغفر فقتل ابن خطل } .

وقد اختار صاحب تيسير البيان القول الأول وقرره . ورد دعوى النسخ ; أما بآية براءة فلأن قوله تعالىفي المائدة : { لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام } موافق لآية البقرة ، والمائدة نزلت بعد براءة في قول أكثر أهل العلم بالقرآن ، ثم إن كلمة " حيث " تدل [ ص: 55 ] على المكان فهي عامة في أفراد الأمكنة ، وآية البقرة نص في النهي عن القتال في مكان مخصوص وهو المسجد الحرام فتكون مخصصة لآية براءة ، ويكون التقدير { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } إلا أن يكونوا في المسجد الحرام فلا تقتلوهم حتى يقاتلوكم فيه .

وأما قوله تعالى: { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } فهو مطلق في الأمكنة والأزمنة والأحوال ، وآية البقرة مقيدة ببعض الأمكنة ، فيكون ذلك المطلق مقيدا بها ، وإذا أمكن الجمع فلا نسخ ، هذا معنى كلامه وهو طويل ولكن في كون العام المتأخر يخصص بالخاص المتقدم خلاف بين أهل الأصول ، والراجح التخصيص ، وفي كون عموم الأشخاص لا يستلزم عموم الأحوال والأمكنة والأزمنة خلاف أيضا معروف بين أهل الأصول .

التالي السابق


الخدمات العلمية