صفحة جزء
باب استفسار المقر بالزنا واعتبار تصريحه بما لا تردد فيه 3107 - ( عن ابن عباس قال { : لما أتى ماعز بن مالك النبي صلى الله عليه وسلم قال له : لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت ؟ قال : لا يا رسول الله ، قال : أفنكتها لا يكني قال : نعم ، فعند ذلك أمر برجمه } . رواه أحمد والبخاري وأبو داود ) .

3108 - ( وعن أبي هريرة قال { : جاء الأسلمي إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فشهد على نفسه أنه أصاب امرأة حراما أربع مرات كل ذلك يعرض عنه ، فأقبل عليه في الخامسة ، [ ص: 119 ] فقال : أنكتها قال : نعم ، قال : كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر ؟ قال : نعم ، قال : فهل تدري ما الزنا ؟ قال : نعم أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا ، قال : فما تريد بهذا القول ؟ قال : أريد أن تطهرني فأمر به فرجم } . رواه أبو داود والدارقطني ) .


حديث أبي هريرة أخرجه أيضا النسائي ، وفي إسناده ابن الهضهاض ، ذكره البخاري في تاريخه ، وحكى الخلاف فيه وذكر له هذا الحديث ، وقال : حديثه في أهل الحجاز ليس يعرف إلا بهذا الواحد . قوله : ( أو غمزت ) بغين معجمة وزاي ، والمراد لعلك وقع منك هذه المقدمات فتجوزت بإطلاق لفظ الزنا عليها .

وفي رواية : { هل ضاجعتها ؟ قال : نعم قال : فهل : باشرتها ؟ قال : نعم ، قال : هل جامعتها ؟ قال : نعم } . قوله : ( لا يكني ) بفتح أوله وسكون الكاف من الكناية : أي أنه ذكر هذا اللفظ صريحا ولم يكن عنه بلفظ آخر كالجماع . قوله : ( المرود ) بكسر الميم : الميل

قوله : ( والرشاء ) بكسر الراء ، قال في القاموس : والرشاء ككساء ، الحبل ، وفي هذا من المبالغة في الاستثبات والاستفصال ما ليس بعده في تطلب بيان حقيقة الحال فلم يكتف بإقرار المقر بالزنا بل استفهمه بلفظ لا أصرح منه في المطلوب وهو لفظ النيك الذي كان صلى الله عليه وسلم يتحاشى عن التكلم به في جميع حالاته ولم يسمع منه إلا في هذا الموطن ، ثم لم يكتف بذلك بل صوره تصويرا حسيا ، ولا شك أن تصوير الشيء بأمر محسوس أبلغ في الاستفصال من تسميته بأصرح أسمائه وأدلها عليه . وقد استدل بهذين الحديثين على مشروعية الاستفصال للمقر بالزنا ، وظاهر ذلك عدم الفرق بين من يجهل الحكم ومن يعلمه ومن كان منتهكا للحرم ومن لم يكن كذلك لأن ترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في المقال ، وذهبت المالكية إلى أنه لا يلقن من اشتهر بانتهاك الحرم

وقال أبو ثور : لا يلقن إلا من كان جاهلا للحكم وإذا قصر الإمام في الاستفصال ثم انكشف بعد التنفيذ وجود مسقط للحد فقيل : يضمن الدية من ماله إن تعمد التقصير وإلا فمن بيت المال . وقيل : على عاقلة الإمام قياسا على جناية الخطإ . قال في ضوء النهار : والحق أنه إذا تعمد التقصير في البحث عن المسقط على إسقاطه اقتص منه وإلا فلا يضمن إلا الدية لما عرفت من كون الخلاف شبهة ا هـ . وهذا إنما يتم بعد تسليم أن استفصال المقر عن المسقطات المجمع عليها واجب على الإمام ، وشرط في إقامة الحد يستلزم عدمه العدم كما هو شأن سائر الشروط على ما عرف في الأصول . والواجبات والشروط لا تثبت بمجرد فعله صلى الله عليه وسلم وليس في المقام إلا ذلك وغايته الندب

وأما الاستدلال على الوجوب بأن الإمام حاكم ، [ ص: 120 ] والحاكم يجب عليه التثبت فيمكن مناقشته بمنع الصغرى ، والسند أن الحاكم هو من يفصل الخصومات بين العباد عند الترافع إليه ، ولا خصومة ههنا بل مجرد التنفيذ لما شرعه الله على من تعدى حدوده بشهادة لسانه عليه بذلك ، وكون المانع مجوزا لا يستلزم القدح في صحة الحكم الواقع بعد كمال السبب وهو الإقرار بشروطه وإلا لزم ذلك في الإقرار بالأموال والحقوق فيجب على الحاكم مثلا بعد أن يقر عنده رجل بأنه أخذ مال رجل أن يقول له : لعلك أردت المجاز ولم يصدر منك الأخذ حقيقة لعلك كذا لعلك كذا ، واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله ، وبيان الملازمة أن وجود المانع مجوز في الإقرار بالأموال والحقوق كما هو مجوز في الإقرار بالزنا ، فتقرر لك بهذا أن إيجاب الاستفصال على الإمام في مثل الإقرار بالزنا وجعله شرطا لإقامة الحد بمجرد كونه حاكما غير منتهض ، فالأولى التعويل على أحاديث الباب القاضية بمطلق مشروعية الاستفصال في الإقرار بالزنا لا بالمشروعية المقيدة بالوجوب أو الشرطية . .

التالي السابق


الخدمات العلمية